إيران نقلت 11 طنا من الماء الثقيل إلى ميناء إيراني، تحت أختام الوكالة، على اعتبار أن هذه الكمية سوف تُصدر، لكن طهران لم تعلن عن وجهة التصدير
مع توقيع الاتفاق النووي بين إيران والدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن بالإضافة إلى ألمانيا، أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما في بيانه الرسمي الذي ألقاه في يوليو 2015 أن ما وُقع عليه هو اتفاق شامل وطويل الأجل مع إيران، سوف يمنعها من الحصول على سلاح نووي. لكن تلك العبارة المطمْئِنَة التي تَصدرَت البيان الرئاسي لم تلبث أن تلاشت أمام بقية فقرات البيان التي قال فيها أوباما: تملك إيران حاليا مخزونا يمكنه إنتاج عشرة أسلحة نووية، وبفضل هذا الاتفاق سينخفض هذا المخزون إلى حد هامشي لا يكفي لصنع سلاح نووي واحد، وسوف يستمر هذا الحد على المخزون لفترة 15 عاما.
مصداق ذلك أن الرئيس الإيراني حسن روحاني منذ يومين، بعد مرور أقل من عامين على الاتفاق النووي، أصدر أوامره إلى هيئة الطاقة الذرية الإيرانية، بالتخطيط لتصميم وبناء مشروع الدفع النووي، في ما يبدو ظاهريا أن هدفه الاستفادة منه في عملية النقل البحري، على الرغم مما ينطوي عليه من مخالفة للاتفاق النووي واستئناف واضح للبرنامج النووي الإيراني، وفي الوقت نفسه أمر بدراسة وتصميم إنتاج الوقود الاستهلاكي لمشروع الدفع النووي، وهو ما يُعَد خرقا إيرانيا آخَر للاتفاق النووي.
يتضح من كل هذا أن الاتفاق النووي لم يكُن سوى تأجيل لوصول إيران إلى إنتاج سلاح نووي، لمدة 15 عاما فقط، على افتراض التزام إيران بجميع البنود، التي تشمل تسليم اليورانيوم المخصب بنسبة 20%، وتخزين ثلثي أجهزة الطرد المركزي التي تقوم بالتخصيب فوق الأراضي الإيرانية تحت رقابة دولية، والقدرة على تفتيش مصانع هذه الأجهزة ومطاحن اليورانيوم، مع عدم السماح لإيران بتخزين أكثر من 130 طنا من الماء الثقيل، وأي إخلال بأي بند من هذه البنود يجعل إيران أقرب من امتلاك السلاح النووي خلال فترة أقل من تلك السنوات الـ15. ويتضح من توجيهات وأوامر روحاني الأخيرة باستئناف العمل على البرنامج الإيراني النووي، أن هذه الفترة توشك أن تتقلص كثيرا.
إيران انتهكت الاتفاق بالفعل عدة مرات في كمية الماء الثقيل الموجود على أرضها، قبل مسألة المحركات النووية التي أمر روحاني بصناعتها، وهو ما دفع الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى تحذيرها في نهاية نوفمبر 2016 الماضي قائلة: على إيران التوقف عن تجاوزها المتكرر للحد الأقصى لمخزونها من الماء الثقيل، بناء على ما ينص عليه اتفاقها مع القوى الكبرى. وأبدى مسؤولون من الدول الست الموقعة على الاتفاق، منها أميركا، شعورهم بخيبة الأمل إزاء هذا التجاوز.
يُستخدم الماء الثقيل في المفاعلات النووية التي تُسَمى مفاعلات الماء الثقيل، حيث يعمل وسيطا للتحكم في طاقة النيوترونات ويُستخدم في تبريد التفاعلات النووية. لكن الفائدة الأهم للماء الثقيل أنه يجعل المفاعلات النووية قادرة على استخدام اليورانيوم دون تخصيب مرتفع الدرجة، بمعني أن وجوده بكميات كافية يجعل إيران تعوض نقص عدد أجهزة الطرد المركزي المخصبة، ولا تحتاج إلى يورانيوم عالي التخصيب لإنتاج الأسلحة النووية، فهو إذاً مادة أساسية في صنع الأسلحة النووية وتشغيل المفاعلات، لهذا ركز الاتفاق النووي على أن لا تتجاوز الكمية المخزنة منه فوق أراضي إيران 130 طنا، وتجاوز هذه الكمية يُلغِي جدوى جميع البنود الأخرى -ولو التزمت بها إيران- في منعها من امتلاك سلاح نووي.
أنتجت إيران فعليا 200 طن من الماء الثقيل حتى يناير 2016 وفق تصريح عباس عراقجي مساعد وزير الخارجية الإيراني وكبير المفاوضين في المباحثات التي انتهت بالاتفاق النووي، وفي تصريح سابق قال إن حجم الإنتاج الإيراني السنوي من الماء الثقيل يتراوح بين 25 و30 طنا سنويا.
منذ توقيع الاتفاق النووي لم تَبِعْ إيران فائض إنتاجها من الماء الثقيل، وكل ما جرى هو الحديث عن بيع 32 طنا لأميركا، حسب المتفق عليه في الاتفاق النووي، إلا أن هذه الصفقة أوقفتها إيران بذريعة مصادرة وزارة الخزانة الأميركية مليارَي دولار من أرصدة إيران المجمدة في البنوك الأميركية. وكانت الولايات المتحدة أعلنت أنها لن تشتري كل الكميات المنتجة في إيران، وأنها تعرب عن أملها بأن تشتري دول أخرى كميات من الماء الثقيل الإيراني لاستخدامه في أغراض المفاعلات العاملة في مجال النظائر المشعة في المجالات الطبية.
بالمثل أعلنت إيران أنها بصدد تصدير 40 طنا من الماء الثقيل إلى روسيا الاتحادية، لكنها لم تنفذ فعليا، ومِن ثَم يتجاوز الماء الثقيل الذي تخزنه إيران على أراضيها الحد الذي يسمح به الاتفاق النووي، في انتهاك واضح لبنود الاتفاق.
ومع تحذير الوكالة الدولية للطاقة الذرية لإيران من مغبة انتهاكها للاتفاق النووي، أعلنت إيران عن تخزينها 70 طنا من الماء الثقيل في مستودعات مؤجرة لصالحها داخل الأراضي العمانية، أي تحت التصرف الإيراني، وتستطيع إيران استرجاعها من سلطنة عمان وقتما شاءت، ولم تبِعها أو تسلمها للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
انتقادات الوكالة لإيران دفعت الأخيرة إلى نقل 11 طنا أخرى من الماء الثقيل إلى ميناء إيراني، تحت أختام الوكالة، على اعتبار أن هذه الكمية سوف تُصدر، لكن لم تعلن إيران عن وجهة التصدير. إضافة إلى ذلك كان خطاب روحاني مؤخرا إلى وزير خارجيته بالتحقيق في حالات انتهاك أميركا للاتفاق النووي، بالإضافة إلى خطابه إلى هيئة الطاقة الذرية الإيرانية بالعمل على دراسة وتصميم إنتاج الوقود الاستهلاكي لمشروع الدفع النووي، مؤشرا على تجاهُلها للاتفاق النووي ومحاذيره، وحتى لو اعتبرها البعض محاولات للضغط على الإدارة الأميركية القادمة إلا أنها تؤكد على نوايا إيران النووية.
التعاون العماني-الإيراني في تخزين الماء الثقيل يمثل ثغرة في المساعي الدولية لعدم امتلاك إيران سلاحا نوويا، ومهما كانت علاقة التعاون بين الدولتين فلا يمكن أن تخاطر دولة من مجلس التعاون الخليجي بالأمن الإقليمي على هذا النحو، وبنفس القدر يجب على الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلزام إيران ببيع الزائد لديها من الماء الثقيل أو تسليمه للوكالة، لا الاحتفاظ به مخزونا تحت إمرتها في دولة أخرى. امتلاك إيران هذه الكميات من الماء الثقيل يوضح هشاشة الإجراءات الرقابية الـمُدرَجة بالاتفاق النووي، الذي من أهم عيوبه عدم تَضمنه عقوبات تدريجية إزاء انتهاكات إيران.
ما يحدث حاليا يبين بوضوح أن الإدارة الأميركية كانت حريصة على تحقيق نصر سياسي عبر النجاح في توقيع الاتفاق النووي، أكثر من اتخاذ الضمانات الكافية لمنع إيران من انتهاك الاتفاق، والتحرك صوب امتلاك السلاح النووي، وعلى دول المنطقة والعالم اتخاذ اللازم لمواجهة هذا الخطر المحتمَل بعد 15 عاما أو أقل، إذا لم تتضافر الجهود لمنع إيران من تخزين مائها الثقيل فوق أراضي دول أخرى، وإذا وضعنا في الاعتبار توجيهات وأوامر روحاني الأخيرة لوزير خارجيته، ولهيئة الطاقة الذرية الإيرانية باستئناف المشروع النووي الإيراني، فإن هذه الأعوام الـ15 مرشحة لتكون أقل بكثير.