ليست عثكلة الألفاظ والإغراب براعة، كلا، ولا تعمد الغموض عبقرية وذكاء، حاشا. ولكن البراعة حقًا أن تكتب متعمدًا الإفهام
يروى أن أعرابيًا سئل عن وجود الله فقال البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، ليل داجٍ، ونهار ساجٍ، وبحار ذات أمواج، وسماء ذات أبراج، أفلا يدل ذلك على اللطيف الخبير؟.
من يقرأ هذه العبارة التي لا تكاد تملأ سطرين؛ يجدها بسيطة، سهلة، وربما يعدّها ساذجة لا تستحق حتى الالتفات، لولا ما فيها من بلاغة تعبير، وجمال سبك. هذا ما يتبدّى في أوّل النظر؛ غير أن من يتأمّل يجد أن كل استدلالات علماء الكلام والفلاسفة عن الحدوث والإمكان تدور حول هذه العبارة. وفيها من العمق وبُعد الغور ما لا يتفطن إليه من لا يحب إلا التعقيد وعثكلة الكلام، ومعاظلة الألفاظ.
دونك القرآن الكريم، ولقد أثنى الله تعالى على قرآنه فقال {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر}. فكان يسر القرآن وسهولته وقربه من الفهم مما يستحق به المدح والثناء والإشادة؛ وهو لازم من لوازم الفصاحة والبلاغة، فإن الإنسان إنما يقرأ ليفهَم، ويكتب ليُفهِم.
عفوًا، أرجو ألا يظنّ ظانٌ أني أريد تسطيح الأمور، فهناك من يرى وضوح الأفكار سطحية، وسهولتها عيًّا، وبيانها سذاجة، كما يرى غموضها عمقًا، واضطرابها فلسفة، وتناقضها براعة وذكاءً، حتى غدا ينسب إلى الإبداع كل من نطق بكلام غير مفهوم، أو هذى بكلمات مرصوفة رصفًا، كاللبِن الذي يركمه البنّاء الرديء ركمًا بلا مِلاط، أو كالسكران الذي لا يعقل ما يقول.
وغاية من يقصد إلى توعير الكلام قصدًا؛ أن يظن من يقرأ كلامه أنه عميق جدًا إلى الدرجة التي بلغ بها هذه الصعوبة الشاقّة، أو ليجعله من باب المضنون به على غير أهله، ولا أرى القصد إلى هذا التوعير، وتعمّد هذه العثكلة إلا تعويضًا عن ضعف الأفكار وهشاشتها، بتفخيم الألفاظ، وتركيبها تركيبًا تمجّه اللغة العربية التي يكتب بها إن كان عربيًا.
وليست القضية هي (مصطلحات) الفنون التي تواضع عليها أهلها، فالجوهر والعرَض والقدم والحدوث، والافتراق والاجتماع، والسبب والشرط والعلّة وغيرها من مصطلحات علم الكلام معروفة عند أهلها يمكن لأي قارئ العلم بها، واستيعابها.
وكذا الوجوب والإمكان واللمّيّة والإنيّة والماهيّة والهويّة وغيرها من مصطلحات الفلسفة معلومة أيضًا، ولا يُعجز شاديًا للعلم أن يفهمها ويعيها.
وقل مثل هذا في النحو، والصرف، وأصول الفقه، والفيزياء، والكيمياء والاجتماع، وسائر ما ينتمي إلى العلوم النظرية، والعلوم الإنسانية، والعلوم الطبيعية. فأنا لا أعني مصطلحات العلوم التي يدرسها الدارسون في الجامعات ويعقلون معانيها.
نعم، هناك مفكّرون كبار معروفون، ذاعت كتبهم وانتشرت، وأثّرت تأثيرًا عظيمًا في الفكر العربي – كمحمد عابد الجابري – رحمه الله؛ فلم يكن أسلوبه مظلمًا، ولا تعبيراته مستهجنة مستنكرة، وسواء أعجبك فكره أم لم يعجبك؛ وسواء اتفقت معه أو اختلفت؛ فإن أسلوبه في الكتابة واضح، وبيّن، وسلس، ومفهوم، وقد بلّغ ما يريد من دون الحاجة إلى التقعّر. ولا أظن قارئًا للجابري لا يدرك هذه الميزة التي اتسمت بها كتابته، بخلاف أبي يعرب المرزوقي على سبيل المثال.
لنعد إلى التراث مثلًا، فهل يجد قارئ ابن خلدون صعوبة في قراءته، على الرغم من سبعمئة سنة تفصل بيننا وبينه في حديثه عن العمران وعلم الاجتماع الإنساني؟
وهل يجد قارئ أبي حامد الغزالي وهو مفكّر كبير هذه الصعوبة التي يجدها في كتابات بعض (المتفذلكين) من المعاصرين على الرغم من مضيّ تسعة قرون على وفاته؟ وهل يستطيع أحد أن يزعم أن وضوح فكر الغزالي سطحيّة؟ وتعقيد أسلوب فلان وفلان وفلان من المعاصرين عمق وعبقرية؟
وهذا كتاب الرد على المنطقيين، وكتاب درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية، وبيننا وبينه سبعمئة سنة، وهما كتابان فلسفيان بامتياز، مملوءان بمصطلحات القوم، وبأدلتهم وأقيستهم، فهل يستطيع مختص أن يزعم أنهما مستغلقان غير مفهومين؟
ليست عثكلة الألفاظ والإغراب براعة، كلا، ولا تعمد الغموض عبقرية وذكاءً، حاشا. ولكن البراعة حقًا أن تكتب متعمدًا الإفهام، وأن تبسّط أسلوبك فيفهمه من يمتلك الحدّ الأدنى من القدرة على الفهم ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، هذا إذا كنت حقًا تكتب للإفهام، وإذا كنت حقًا تريد أن تبلغ رسالةً ما. أما إذا كان غرضك فقط أن يقال: ما أعمق فلانًا! إنه عميق إلى الدرجة التي أقرأ فيها كتاباته ثم لا أفهم شيئًا! فحينئذ؛ لا يملك مثلي إلا أن يحوقل، وأن يستعيذ بمولاه تعالى من عذاب السعير!