الهويات اليوم غائمة ومتضاربة، فبينما تُغذى العنصرية من جهات تُغذى الطبقية المالية أيضا من جهات، ويُغذى الجهل والتطرف والعنف من جهات أخرى

حين تراقب طفلا ينمو، وترى كيف يتعامل مع من حوله تدهش بلا شك من كيفية التعامل وتكوينه للعلاقات وتطورها مع مرور الزمن. فربما بدأ بالتقرب للآخر والابتسام أو العكس، فقد يبدأ إن كان عنيفا بالاعتداء عليه، فإن وجد ردا عنيفا ربما تصالح معه أو ابتعد عنه للأبد. تصرف ينم عن ذكاء فطري وبراعة في الاختيار والاختبار، والطفل أثناء تشكل هذه العلاقات يستفيد من حواسه ولا يملك مخزونا تراثيا يعيقه، أو يشوش عليه، وهنا لا يدرك ما هي الأرض ولا من هم البشر الذين يشكلون أي وجود خارج حواسه الخاصة. لكن البشر الآخرين حين يشيرون إليه يمنحونه هويات مختلفة وربما مخاتلة، فهو ينسب لأرض سكنها أو انتقل أسلافه منها وهو ينتسب لدين وغالبا لفرقة من هذا الدين، وهو بحكم لونه ينسب لعرق، وتستمر دوائر الهوية تضطرب حوله كلما كبر في المدرسة والعمل وغيرهما، ولا ينفك عن الحركة داخل هذه الهويات. فإن كانت الثقافة التي ينتمي إليها تعزز من قيمته كإنسان وسط جموع من البشر سينمو واعيا لحقوقه وواجباته ومعتدا بنفسه ومنجزه الخاص.
أما إن كان من ثقافة عنصرية داخل جماعات أو دوائر متقاطعة متضادة فإن العنصرية غالبا ما ستنتقل إليه ولن يستطيع الانفكاك عنها إلا لو كان صاحب تفرد عقلي نادر يقوده إلى أفق وثقافة أكثر رحابة وإنسانية.
(تذكر الدراسات، وتشير الإحصاءات، واتفق العلماء، وقال السلف) عبارات رغم اختلاف مرجعيتها إلا أنها تتفق على أمر واحد هو الإبهام والإيهام، فلن تعرف أبدا مَن السلف الذين تقصد، ولا أي دراسات وإحصاءات تمت!
في وسائل التواصل تشن الحروب على الإنسان المخالف للتوجه بنشر الأكاذيب عنه لإسقاطه، فيتحول ببساطة إلى إنسان مهشتق أو موسوم! والمهشتق لغة هو من رمته الدواهي ليصبح اسمه في وسم من وسوم تويتر للفت انتباه العامة للسؤال ماذا فعل فلان أو فلانة؟ فتساق الأدلة والحجج وكثير منها سوء فهم أو اختصار مخل أو موقف عابر ..هذا الأمر يستمر لساعات أو أيام ويهدأ، ولكنه عند بعض الناس تحول إلى رجل منبوذ أو امرأة منبوذة فيما يشبه صحيفة السوابق، فكأنما أدخله الوسم المقام ضده في سجن عقلي بلا أمل في البراءة!
كما قال الشاعر: قَدْ قِيْلَ مَا قِيْلَ إنْ صِدْقا وَإِنْ كَذِبا...  فما اعتذارك من قول إذا قيلا
آراء الناس في بعضهم البعض ليست حجة يعتد بها، وليست قرينة يؤخذ بها في المحاكم ولا يحاسب بها الأحياء. هي مجرد آراء لا أكثر، لكنها قد تضر بشدة وتقتل أكثر مما تقتل النيران الصديقة!
نعود إلى الهوية التي لم تعد اليوم كما كانت بالأمس انتماء لمكان أو وطن أو حرفة، بل توسعت لتشمل العلوم والفنون والإعلام، وتفوق فيها من تلقى في العقود الماضية تربية وتعليما مميزين أخرجت لنا نماذج يشار إليها بالبنان، لكن التراجع الثقافي الذي حدث نتيجة ضعف التعليم وانتشار وسائل التواصل وتحول الإنسان إلى مرسل ومستقبل في آن واحد يصنع الخبر ويحلله ويعلله مهما كان مستوى وعيه أو جهله أو علمه، ولا ننسى دور الرأسمالية التي تحكم اقتصاد العالم وإن كانت مؤسساتها الضخمة اليوم تعاني تراجعا.. المهم أن كل ما سبق عاد ليخرج لنا رجلا بسيطا وسط بيته يصبح حديثا للناس دون أن يعلم أن هناك من صوره من أطفال الأسرة، أو تجعل صغير السن أبو سن يقوم بدعوة فتاة إلى الإسلام وهو لا يجيد الحديث بلغتها ويعرض عليها الزواج في نفس الوقت! وتجعل شابا وشابة حديثي نعمة يتفننان في إظهار الثراء بطرق تخلو في أحيان كثيرة من الإنسانية!
كيف يعرّف الشباب اليوم ذواتهم وسط هذا الانفلات الأخلاقي من كل التزام إنساني بقيمهم الأصيلة التي ينتمون إليها؟
الهويات اليوم غائمة ومتضاربة، فبينما تُغذَى العنصرية من جهات تُغذى الطبقية المالية من جهات أخرى، ويُغذَى الجهل والتطرف والعنف من جهات أخرى!
من دائرة أوسع الشاب العربي اليوم شاب مهجري الحلم ولو غرق في البحر الفاصل بينه وبين أرض ميعاده، وهذه الهجرة يبدو أنها هي الهوية المنقولة التي أصبحت حلمه الدائم، وإن عجز عن تحقيق الحلم تشبث بالسفر لا للسياحة والمتعة والانفتاح على الآخر، بل ليلتقط صورا لحياة يحلم أن يكون جزءا منها ولو بصورة عابرة، وليهرب من مصادمات واقعه الذي عجز عن التصالح معه، ألا ترون أننا انشغلنا عن الحياة بالتقاط صور لها؟!
من بداهة القول أن هذه مجرد نماذج ففي مجتمعاتنا خير لا ينقطع، لكن المخيف أن الصورة المرئية اليوم أصبحت لمشاهير يشكلون هويات جديدة وانتماء للرفاهية التي يستحيل أن تتوفر للكل، وقد تترك في نفس المعجبين بهم من صغار السن وقليلي الوعي أخاديد عميقة لا تردم.
أخيرا تحقيقا لرؤية صادقة للمستقبل لابد من توجيه أكبر لوعي المجتمع والتوقف عن ملاحقة الذين لا يثرون حياتنا لأنهم لا يملكون إلا المال ومتابعتنا المستمرة لهم، أما نحن فلنا حياة أهم منهم، ووقتنا نستحق أن نستثمره فيما ينفعنا!