عقلنة الآخر تعني عند ليفيناز إدخال الآخر في مقولات الذهن. هذه المقولات تجعل من الآخر جزءا من المعرفة الذاتية
من عنوان المقالة يبدو أنه من الضروري الحديث عن ثلاث قضايا على الأقل: الآخر، الضيافة، والآخر في الضيافة (العلاقة/ الحضور/الوجود). بشكل عام الأطروحة الأساسية لهذه المقالات تهدف لقول التالي: الضيافة توفر حضورا استثنائيا للآخر، أعني باستثنائيا هنا حضورا لا يهدد آخريته، وأن لهذا الحضور الاستثنائي قيمة أخلاقية مذهلة. الطرف الأول في عنوان المقالة هو الآخر، والسؤال الأكثر حضورا مع هذا الطرف هو: من هو الآخر؟ هذا السؤال يحيل إلى حالة من التناقض وهي حالة تعريف الآخر. التناقض يتضح حين نذكر أن الآخر لا يعود آخرا حين نقوم بتعريفه. بمجرد التعريف يتسرب الآخر من المشهد ليحضر أمامنا من نعرفه. التعريف يعني جعل الآخر مفهوما للذات، أي جزءا من دائرة الفهم الذاتية، لذا فالآخر هنا لم يعد آخر. هذا الإشكال لا تخف حدته بتحوير السؤال السابق إلى السؤال التالي: ماذا تقصد بالآخر؟ هذا السؤال أحال مهمة التعريف من كونها متوجهة مباشرة للآخر إلى كونها متوجهة إلى قصدية الذات. إذا كنا لا نستطيع القبض على الآخر في تعريف فهل يمكننا القبض على قصدية الذات المفكرة حين تتحدث عن الآخر؟ بهذه الاستحاطة يمكننا التخفيف من طموحات التعريف كثيرا، باعتبار أن الذات حين تفكر أو تتحدث أو على الأقل حين تشير إلى الآخر فإنها لا بد من أن تحتوي على شيء من المعنى، شيء من التحديد يوجه تفكيرها لهذا الاتجاه دون غيره. لا أظن أن هذه الاستحاطة ستنجينا من الأشكال الأول، وهو أن تعريف الآخر يعني غيابه كآخر، أي أن تعريف الآخر يعني القضاء عليه. لكن رغم ذلك دعونا نحاول الوصول إلى الآخر من خلال قصدية الذات. الذات حين تفكر في الآخر فهي تفكر في شيء ما. ما هذا الشيء أو ما الذي يجري تحديدا في الذات حين تشير إلى الآخر؟
الأسئلة السابقة جميعا تنطوي على هذه المسلمة: أن الآخر يمكن أن يكون موضوعا لقصدية الذات أو موضوعا لتفكيرها ويبقى آخر في ذات الوقت. موضوعات قصدية الذات أو تفكير الذات لا بد أن تدخل في حسابات الذات، في عالمها، لكي يكون لها معنى. ما يسميه غادامير بالأفق Horizon ليس سوى سردية نسجها تاريخ الذات أو التاريخ كما نسجته الذات. الأفق هنا ليس مغادرة للذات بل هو فضاء امتدادها. الآخر في هذا الفضاء هو امتداد للذات، حاضر في تاريخها وسرديتها. الآخر هنا إذن ليس إلا الذات، أو أحد اهتماماتها.
الأفق هنا هو عملية دمج لما هو غريب وغير معتاد في سياق المعنى الذاتي أو المعنى العام الذي تتحرك فيه الذات وتكتسب منه معانيها. الأفق بهذا الشكل هو تحويل للآخر في فضاء معانينا لما يجعله مفهوما، لما يجعله ذا معنى. أي يتوقف عن حضوره كغريب ومفاجئ وجديد. هنا برأيي تفشل مهمة محاولة تعريف الآخر من خلال اللجوء لقصدية الذات بعد أن فشلت المهمة في محاولة القبض على الآخر في ذاته. هنا فشلت المحاولة الموضوعية التي ترى للآخر وجودا مستقلا في ذاته يمكن التعرف عليها، وكذلك المحاولة الذاتية التي ترى الآخر موضوعا لقصدية الذات. يبدو أن محاولة تعريف الآخر لا تزال تتحرك في الفضاء الأنطولوجي الذي يعبر عنه ليفيناز بمحاولة رد الآخر للذات the reduction of the other to the self. هذه المهمة تتحرك في إطار الذاتوية egoism.
لكن كيف نتحدث عن الآخر ونحن لا نعرفه؟ هذا السؤال يذكرني بسؤال مينو Meno لسقراط عن المعرفة: كيف نبحث عن الشيء ونحن لا نعرفه؟ إن كنا نعرفه فإننا لا نحتاج للبحث عنه، وإن كنا لا نعرفه فكيف نبدأ في البحث عنه؟ سقراط لجأ للجواب التالي: المعرفة تذكّر. نحن نعرف الأشياء والمعاني من خلال تذكرها. المعرفة موجودة فينا ولا نحتاج إلا فقط إلى أن نستثير ذاكرتنا لتخرجها لنا. من المهم هنا أن نلاحظ مع سقراط أن الذاكرة هنا ليست حصيلة تجاربنا أو خبراتنا، بل هدية من الآلهة. لو أردنا أن نكون سقراطيين هنا لقلنا إن الآخر هدية. الآلهة هنا عند سقراط تشير إلى ما هو مفارق للذات لما هو خارج عنها. الهدية عادة ما تستقبل من الخارج. كونها خارجية هو ما يعطيها قيمتها. هل يعني هذا أن نتوقف عن البحث عن الآخر في أذهاننا، في اهتماماتنا، في آفاق معانينا، وأن ننتظر قدومه من الخارج؟
في محاولة للتطهر من الذاتوية يذكر ليفيناز أن الآخر هو ما ليس أنا. هنا يريد ليفيناز أن يتطهر من خطيئة الفلسفة الكبرى: عقلنة الآخر. عقلنة الآخر تعني عند ليفيناز إدخال الآخر في مقولات الذهن. هذه المقولات تجعل من الآخر جزءا من المعرفة الذاتية، أي ترده للذات، لما تعرفه الذات. إذا كان العلم هو القضاء على سحرية العالم فإن الفلسفة، كما ينقدها ليفيناز، هي القضاء على آخرية الآخر. الآخر هنا إذن ليس منتجا للفكر ولا للقصدية بل مؤسسا لها وشرطا متعاليا لها. يشير ليفيناز إلى أن العلاقة مع الآخر سابقة للوعي وسابقة للتصورات الذهنية عن الوجود. للتوضيح يشير ليفيناز إلى الظاهرة اللغوية ويتساءل: هل الآخر منتج لغوي أم شرط أولي لوجود اللغة؟ هل يمكن وجود لغة بدون آخر؟ اللغة هنا ليست الكلام بل المسؤولية بين الذات والآخر التي ينتج عنها الكلام. نلاحظ هنا أن الكلام ينقطع ويتلاشى بمجرد أن يقرر أحد الأطراف عدم اهتمامه أو عنايته بما يقوله الآخر. أي بمجرد أن يقف عن الشعور بأنه مسؤول عن الاستماع والاستجابة لما يقوله الآخر. هذه المسؤولية تحديدا هي شرط أولي للغة، شرط أخلاقي لذا فالأخلاق هي الفلسفة الأولى.