الحديث هنا عن بعض وليس كل مثقفينا، وتحديداً عن هؤلاء الذين يصفون أنفسهم بالنخبويين التنويريين الفطاحل، ومن ثم يرون فيما يرى الواهم أنهم الأحرار بين قطيع رعوي، وأنهم حاملو شعلة التنوير لإضاءة هذا الظلام الحالك، وأنهم المنفتحون على العالم في حين آثر الجميع من حولهم الركون للانغلاق والتقوقع على الذات. الحديث هنا عن هؤلاء البعض الذين لا يزالون يظنون أنهم إن أومؤوا تمايل القطيع وسار خلفهم.
هؤلاء البعض من مثقفي بلادي، حالهم كحال متصوفة لا عمل لهم سوى الدوران في حلقة واحدة عنوانها الأنا، أنا هنا يا قطيعاً من الأغبياء، أنا المعلم الأريب الألمعي، حكيم الزمان العبقري، والأنا دائماً تجر صاحبها إلى كهوف العزلة، إنها تُصيب المرء بالجنون، وفي الجنون يتم افتراض أشياء لا أساس لها من الصحة، كأن يظن المعتزل أن في عزلته نجاة من فوضى الخارج، وأنها أمر صحي لأن الخارج جحيم، كأن يظن أيضاً أن العزلة مسكن النخبة من العقلاء.
ثم تأتي مكانة المرأة في أبجديات النخبة المثقفة كخط مستقيم ثابت من الاستحالة الحياد عنه، فالتقرب منها حرية، وضمها ديمقراطية، وكشف اللثام عنها طريق المجتمع للخلاص، وللأمانة أن من الغباء القول بأن تمحور أحاديثهم حول المرأة مرده إلى شهوة أو مراهقة فكرية، والقول بهذا يُعد جهلاً بطبيعة الحال، فبعض هؤلاء النخبة الذين يدورون حول المرأة من جنس النساء! إن السبب الأهم لدوران هؤلاء البعض من مثقفينا حول المرأة أنهم يجهلون حقيقة دورهم، وما المُراد منهم، يجهلون كيف يؤثرون ويكونون أعضاءً فاعلين في المجتمع، ولجهلهم ظنوا ألا سبيل إلى تجميل المجتمع إلا بالمرأة، وهذا موضوع شائك طويل.
المهم أن الفساد قد تفرع وتنوع وتمدد ولم يترك جحراً إلا ودخله، وما مر بمنعطف إلا وسلكه، فهل يُعقل في ظل هذا الانتشار للفساد أنه لم ينتبه إلى أقوى الاتجاهات بعد الدين والسياسة؟ لذلك يمكن القول بأريحية إن الفساد قد تغلغل في المنظومة الثقافية، وغزا حتى كهوف النخبة وأصابهم بلوثة حتى جعل كل إنتاجاتهم أو معظمها ليست إلا شتماً أو بحثاً عن شوشرة، أو كلاما بلا وزن وفائدة.
وللحق فإن هذا الوطن أنجب الكثير جداً جداً من المثقفين، غير أن القليل من هذا الكثير ترك خلفه تأثيرا يُذكر، وأكثر هذا القليل الذي ترك تأثيراً إما وافته المنية أو هو على وشك، تاركين الساحة لمثقفين أحياء أصحاء لكنهم هباء، يتقاتلون على الوجاهة والفوز بمقاعد في الإعلام، يتقاتلون على كل ما لا يهم المواطن وآلامه، مثقفون يُحرّمون المساس بذواتهم ويذيقون منتقديهم أشد الهجاء، يحلمون بعالم أفلاطوني، وينادون به رغم أنهم أول من يمارسون الواقع بكل سيئاته.
إن حقيقة الصراع بين مثقفينا مع بعض رموز التيار الديني، أنه لا يوجد صِراع، فالكل إخوة في التخلف، المتدين الذي يغار على دين الله بخنق المواطن تماماً كالمثقف الذي يستعلي على المواطن لأجل الوجاهة، ولا خاسر هنا سوى المواطن الباحث بين كل هذه الفوضى عن الأمل ثم لا يجده إلا على لوحة بوفيه يتم فيها بيع ساندوتش البيض بخمسة ريالات، لأن صاحب البوفيه يعلم يقيناً ألا أحد من مثقفي الوطن أو متدينيه سيهتم بسد جوع زبائنه، لأن صاحب البوفيه أدرك أن الكل مشغول بإشغال المواطن عن مآسيه.
إن هذا الصراع ليس أكثر من مسرحية مفتعلة بين أصدقاء، وإن شئت فقل إخوة اتفقوا أن يمثلوا دور المتصارعين فكرياً وثقافياً، لذا لا يوجد اليوم بين الإخوة المتصارعين المتناحرين، صاحب حق، لا يوجد خاسر إلا المواطن الذي لا ينتمي إلى أي طرف، ولا يهمه لمن ستكون الغلبة، هو وحده من يتجرع مرارة الهزيمة رغم أنه ليس طرفاً في هذا الصراع ولا أي صراع آخر.
ماذا استفاد المواطن من أولئك البعض من المثقفين النخبويين؟ ندوات ومؤتمرات ومحاضرات وأمسيات، وعشاء فاخر وبوفيه مفتوح واستئجار قاعات ومسارح، كل هذا من أجل الدردشة والرغي! الأمر شبيه جداً بالقمم العربية التي تستنزف الأموال ثم لا يصدر عنها سوى كلمات الاستنكار والتوصيات وبعض الرؤى التي لا تفيد أي أحد، كلمات تستهلك الشيء الكثير ثم تخرج مبعثرة بلا وزن، إننا لسنا بحاجة إلى ملتقيات وحوارات ودردشات ثقافية، إنما بحاجة إلى انتفاضة ثقافية تغير الوضع الحالي.