في المقر الرئيسي لشركة بوينج، عملاق صناعة الطيران، وفي مدينة سياتل الأميركية، تظهر شاشة عملاقة الحجم، وفيها خريطة كل هذا العالم، وقد ظهرت عليها بطريقة إلكترونية كل الطائرات المسافرة في سماء البسيطة مباشرة في تلك اللحظة. هي بالمناسبة برنامج رادار متاح على أجهزتنا المختلفة وفيه لا تستطيع متابعة كل حركة الطيران العالمية، فحسب، بل أيضاً حتى برقم ورمز أي رحلة طيران تود متابعتها من لحظة الإقلاع حتى الهبوط. القصة في هذه القصة، وكما هو صلب الحديث بيني وبين مسؤول مبيعات شركة بوينج الأول صباح ما قبل الأمس أن هذه الخريطة الجوية المباشرة لحركة الطيران حول العالم لا تعكس سوى سماءات القوة والنفوذ وتحولاتها المذهلة. وحين تنتشر الطائرات المحلقة على الشاشة الهائلة مثل أسراب الذباب الكثيف، تظهر أمامك بوضوح خرائط الغنى والفقر في هذا العالم، وأيضا حجم المسافة المخيف ما بين الشمال والجنوب. قلت لمسؤول بوينج في لقطة ساخرة: لا يبدو سرب الذباب فوق أميركا كثيفاً بالمقارنة مع أجزاء أخرى من نفس الخريطة. فأجاب: يؤلمني أن كلامك واستنتاجك صحيحان لأن سماء الصين ومعها جنوب شرق آسيا يحتلان المرتبة العالمية الأولى في حركة الطيران، حتى وإن كنت تتحدث الآن عن نصف الليل هناك بينما نحن في عز النهار الأميركي. لقد فقدت أميركا مركزها الذي كانت تحتله منذ بدء صناعة الطيران حتى إلى ما قبل خمس سنوات فقط، حين تراجعت إلى المرتبة الثالثة خلف الشرق الآسيوي والغرب الأوروبي. الشيء اللافت الجميل في خريطة الطيران المباشرة حول العالم أن منطقة الخليج العربي والسعودية تأتي في المرتبة الرابعة وتسبق منطقة شمال شرق أميركا اللاتينية وعلى رأسها العملاق البرازيلي القادم بقوة إلى اقتحام هذه الخريطة. والخلاصة يختصرها هذا المسؤول وهو يقول: نحن لم نعرض هذه الشاشة الرادار في المقر الرئيسي لشركتنا إلا لكي يدرك عشرات المسؤولين وأصحاب القرار الذين يأتون لزيارتنا كل يوم طبيعة وحجم هذه الخريطة، كواحد من أحد أهم المؤشرات الصادقة والمباشرة لحركة الاقتصاد في هذا العالم. مؤشر تشاهده بالعين المجردة وقد تلمسه مباشرة بمقارنة شرق أوروبا مع خريطة غربها، أو منطقة الخليج مع بقية خارطة العالم العربي على ذات المكان من خريطة العالم. شعرت بالفخر وهو يؤكد لي أن الشركة قد باعت لشركات النقل الجوي الخليجية في العقد الأخير ما فاق كل مبيعاتها لشركات شرق أوروبا مجتمعة، وأن حجم حركة السفر للأفراد في الخليج يتفوق على نظيره البرازيلي. وكل ما تبقى من أطراف الخريطة الفقيرة هو ما يستحق اللفتة بالفعل، وهنا سأختم أن هذه الخريطة وحدها، بشكلها الراداري الإلكتروني كانت أعظم مؤشر اقتصادي شاهدته في كل حياتي لحركة الاقتصاد.