اقرأ معي المشهد التالي في الحالة المصرية، وهو يتضمن مقدمات واقعة حالياً، ونتائج متوقعة إن لم يتول الله المسلمين بستره ويتدارك سبحانه السياسيين والمفكرين والاقتصاديين بتوفيقه إياهم للرأي الصائب، وتقديم مصلحة البلاد والعباد على مصالحهم الخاصة ورؤاهم السياسية والحزبية التي يجب أن تنصرم، ويتم استبدالها بما يتناسب ومتغيرات الأحوال ومستجدات الأحداث والوقائع، وإليك المشهد:
”استمرت أزمة الدولار في مصر في التصاعد حتى بلغت الحاجة المصرية إليه تفُوقُ عشر مرات حجم الموجود في البنوك المصرية والسوق المحلية، الأمر الذي نتج عنه انخفاضٌ كبيرٌ جداً وغيرُ مسبوق في سعر الجنيه مقابل الدولار، كل ذلك ألقى بظلاله على القوة الشرائية للعملة المصرية في الداخل، مما يعني أن الموظف المصري الذي كان يتقاضى من الجنيهات ما يعادل مائة دولار أصبح راتبه اليوم لا يتجاوز العدد القليل من الدولارات، ولم يعد الأمر قاصراً على الطبقة المتوسطة التي أصبحت بين عشية وضحاها فقيرة، ولا على الطبقة الفقيرة التي أصبحت معدمة، ولا على الطبقة المعدمة التي أصبحت هالكة، بل وصل الضر إلى الطبقات الغنية التي لا تمتلك أرصدة من العملة الصعبة في الداخل أو الخارج، حيث نقصت قيمة مدخراتها من العملة المصرية ما يزيد على التسعين في المائة في ظِل ارتفاعٍ مماثل في الأسعار التي لا زال تقييمها الحقيقي يتم بالعملة الصعبة.
وفشلت الحكومة المصرية في معالجة هذه الظاهرة الغريبة جداً، والتي تعود غرابتها إلى كون الظروف الموجودة في مصر لا تؤهلها لهذه المشكلة، فالانخفاض المريع في مصادر العملة الصعبة لا يوجد له ما يبرره أبداً، وقد مرت مصر بظروف أشد قسوة وصعوبة ولم تحدث هذه الظاهرة، الأمر الذي يعني أن وراءها مؤامرة دولية خطيرة لا تستهدف الحكومة المصرية، بل تستهدف الوجود المصري على الخارطة.
فعدد السياح لم يكن مؤهلاً لهذا الانخفاض الكبير جداً وغير التقليدي في ظل استقرارٍ للحالة الأمنية وتوفرِ كلِ الخدمات المناسبة للسائح الأوروبي من نقل وخدمات وترفيه ومنتجعات بحرية وبرية وفنادق بمختلف الدرجات.
وحالُ قناةِ السويس من حيث قدرتُها الاستيعابية وخدمات تسهيل العبور، وقيمة الضريبة المأخوذة على السفن العابرة كل ذلك لا يفسر هذا الانخفاض الكبير في عدد السفن التجارية المارة، كما لا يفسر عودة شركات النقل العالمية لاستخدام طريق رأس الرجاء الصالح، أو قناة بنما، بديلاً عن القناة رغم البعد وحاجة السفن فيهما إلى زمن مضاعف للوصول إلى مقاصدها في الشرق أو في الغرب.
أما المساعدات الخليجية فهي عبارة عن ودائع من الخطر أن تمد الحكومة المصرية اليد إليها، وبين مساعدات عينية كالنفط ليست مرشحة لحل الأزمة، وبين شركات عاملة في الداخل، غالبها معمارية هي في حاجة ماسة أيضا للدولار لاستيراد مستلزماتها، أي: أن هذه الشركات أصبحت جزءًا من المشكلة وليست الحل.
حتى العمالة المصرية في الخارج والتي كانت تُعَدُّ مصدراً ممتازاً للعملة الصعبة، أصبحت تحويلاتها بالجنيه المصري، حيث يقوم مصريون وأجانب ليسوا مجرد تجار عملة بالتعاون على تهريب ملايين الجنيهات من الداخل لبيعها على العمالة المصرية في الخارج بأسعار ممتازة من الدولار والريال والدينار والدرهم واليورو، فيقوم العامل المصري في الخارج بتحويل الجنيهات مباشرة إلى أهله بدلاً من الدولارات، وهو يعتقد أنه رابح، ولا يعلم أن هذا الربح الآني يمثل حطبةً لإحراق مصر.
هذا الوضع السيئ جداً أنتج بطبيعة الحال تذمراً شعبياً كبيراً ليس من قِبَل الطبقات الكادحة كما هو معتاد، بل من كل الطبقات المتضررة، ومنهم الإعلاميون في الداخل الذين لم يعودوا موظفين في الدولة كما كان الأمر قبل عقدين من الزمن، بل أصبحوا موظفين في شركات رأسمالية متضررة هي أيضا من هذا الوضع، بل أصبحت مُهَدَّدَة بالإفلاس، لذلك اشتغلت آلتهم بشدة ضد الحكومة المصرية، وضد رئاسة الدولة، وضد العلاقات المصرية الخليجية، وبالرغم من العداء الكبير بين الإعلام المصري الداخلي الليبرالي أو القومي أو الاشتراكي، وبين إعلام المعارضة المصرية في الخارج، والذي يغلب عليه التوجه الإسلامي السياسي، رغم هذا الخلاف إلا أن التعبئة ضد النظام المصري وحلفائه أصبحت عاملاً مشتركاً.
 الإعلام الحكومي المصري، والإعلام العربي المؤيد للنظام المصري كانا فاشلين جداً في معالجة الأزمة وفي توجيه الرأي العام العربي والمصري على حدٍ سواء الوجهة التي يُمْكِن بها درء الخطر عن البلاد.
حصلت مفاجأة للشعب وهم يملؤون الشوارع ويرددون سلمية، سلمية عدد من التفجيرات في عدد من المدن والقرى المصرية ذهب ضحيتها الكثير من الأبرياء.
مباشرة اتهم الثوار الحكومةَ بأنها وراء هذه التفجيرات، فتوجهوا بكل ما يحملونه من غضب ودون مبالاة إلى مواقع الشرطة والجيش وحاولوا اقتحام بعضها فتعرضوا لإطلاق نار ذهب ضحيته بعضهم، الأمر الذي زاد الأمر سوءًا، واستغلت وسائل الإعلام المعارِضة في الخارج هذا الحدث للإيحاء بأن الحكومة رَدَّت على الثورة السلمية بضربها عسكرياً، فزاد تأجيج المشاعر وانتشر العنف والقتل، ظهرت مع بعض الثوار أسلحة جعلت الحكومة تعتبرها ثورة مسلحة وقررت تدخل الجيش لإخمادها، عندها أعلن عدد من الضباط في الجيش وقوفهم مع الشعب، وتضاعفت الفوضى وأصبحت السيطرة على الوضع صعبة، في هذه الأثناء أعلن أبو بكر البغدادي: أنه موجود في مصر وأن عاصمة الخلافة أصبحت إحدى المدن المصرية، وانضم إليه بقايا الجماعات التكفيرية في مصر، وقامت المخابرات العالمية بمساعدة أنصار داعش في العراق وسورية وليبيا على الدخول إلى مصر، وأعلن تنظيم القاعدة عودة أيمن الظواهري وقيادته التنظيم بنفسه، وتدخل المجتمع الدولي لإنقاذ مصر بزعمه، وأعلنت الحكومة والرئاسة المصرية استعدادها للتخلي عن الحكم وإعلان انتخابات مباشرة، الأمر الذي زاد الأمر سوءًا حيث انفرط عقد ما تبقى من مؤسسات الدولة ودخلت مصر فعليا حالة اللا دولة، وتعددت الفصائل القتالية وهجر الأهالي مدنهم وقراهم، وكما بلغ عدد اللاجئين السوريين نصف الشعب، تجاوز عدد اللاجئين المصريين الأربعين مليون لاجئ...
هذا المشهد هو ما يُخطط له في مصر في سياق مشروع الفوضى الخلاقة، بعد أن فشلت محاولة المصير إليه عبر ثورتي 25 يناير و30 يونيو، واجتاز المصريون بتوفيق من الله هاتين الثورتين دون أن تقع بلادهم فيما وقعت فيه ليبيا وسورية والعراق واليمن.
لا ينبغي أن يفهم القارئ من مقالي هذا تزكية أو نقداً لأيٍ من الأنظمة المصرية التي تعاقبت على حكم مصر خلال السنوات السبع العجاف الماضية، لكن الذي أتمنى أن نتوقف عنده جميعاً هو التفكير في الكيفية الصحيحة للتعامل مع النظام المصري الحالي سواءً علينا أحببناه أم أبغضناه، حكمنا بشرعيته أم وصفناه بأنه نظام انقلابي غاصب لإرادة الشعب ومعتد على الشرعية.
في كل الأحوال ليست الطريقة المناسبة للتعامل مع هذا النظام الوقوف جنباً إلى جنب مع من يسعون لتفاقم أزمة الدولار حتى يفقد الشعب المصري صوابه ويثور، ولا أن تشتغل القنوات المحلية المصرية والمعارضة بكل الوسائل بتأليب الشعب على الرئيس والحكومة من أجل إحداث الثورة، ولا أن تبقى الأزمة قائمة بين الإخوان المسلمين وهم شريحة مهمة من الشعب ومؤثرة فيه وبين الدولة، ولا بالسعي لإساءة العلاقات القائمة بين مصر والسعودية والإمارات، ولا أن تبقى العلاقات سيئة بين مصر وتركيا ومصر وقطر.
فلو حدثت ثورة لا سمح الله، فإن نتائجها لن تكون خروج الرئيس مرسي ومن معه من السجن وتسلمهم من جديد مقاليد الحكم، بل النتائج خطيرة وبشعة ولن تتحملها مصر وحدها، ومِن الحماقة اعتبارها ثمنا مقبولاً لعودة رجل أو جماعة إلى الحكم مهما كان ذلك الرجل وتلك الجماعة.
يجب على جماعة الإخوان المسلمين والدول الراعية لهم حالياً أن يتعاملوا مع النظام المصري على أقل تقدير كأمر واقع، ويقفوا ضد الحرب الاقتصادية وضد الدفع باتجاه الثورة الشعبية التي لن تعود نتائجها على الشعب المصري بالخير أبداً، ويجب على النظام أن يقدم تنازلاته الممكنة من أجل الوقوف في وجه هذا المشروع الذي لا يستهدف شخص النظام، بل يستهدف وجود الدولة المصرية والشعب المصري.
وعلى النظام المصري وإعلامه أن يدركا أن حاجتهما لأمتهما بكل مكوناتها قيادات وشعوباً أعظم وأشرف من حاجتهما للنظام الروسي الذي لن يبرح حتى يغدر بهم وهم أحوج ما يكونون له، كما غدر سابقاً بالرئيس عبدالناصر الذي باع أمته يوماً ما من أجل الاتحاد السوفييتي.
وعلى إعلاميي القطاع الخاص في مصر أن يفقهوا أن حملاتهم الإعلامية ضد السعودية عبارة عن لعب أطفال، وكثيراً ما كانت ألعاب الصغار جسيمة الضرر.
أما كُتَّاب المقالات وكبار المغردين في العالم العربي وبخاصة الخليج فعليهم إدراك أن الوضع الحساس الذي تعيشه مصر الآن يُحتم عليهم العمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)) أما قول الخير، فهو نقد الأخطاء التي يرونها في الحالة المصرية السياسية والاقتصادية والقانونية والشرعية، لكن بعلم وعدل وعقل وإرادة للخير، أما النقد المبني فقط على كراهية النظام المصري لموقفه من جماعة الإخوان دون مراعاة النظرة الواقعية لما تعيشه مصر ودون حسابات علمية، فهذا من اللعب بالنار والمساهمة في إيجاد نسخة جديدة للبلاد العربية المضطربة، لكن هذه المرة في دولة تعدل بعدد سكانها كل من سبقها من دول في عالم الفوضى الفتاكة والتي يسميها المشروع الأميركي: الفوضى الخلاقة.