قد تبدو بعض التجارب الإنسانية مجرد حالات خاصة، ولكنها في حقيقة الأمر ليست كذلك، بل هي الحياة الحقيقية بكل تفاصيلها وتناقضاتها ومفارقاتها، ولعل تسارع الأحداث والمواقف والتجارب هو الذي يُشكل هذه الحياة التي نعيشها
بداية، أعترف بأنني ترددت كثيراً قبل وأثناء كتابة هذا المقال الوجداني، وذلك لسبب بسيط جداً، وهو أنني منذ أن بدأت كتابة المقال الصحفي قبل سبع سنوات تقريباً لم أكتب عن أية تجربة شخصية حدثت لي إلا نادراً، وذلك لأنني نذرت قلمي المتواضع ـ أو هكذا أزعم ـ لكتابة آمال وأحلام وتطلعات أبناء هذا الوطن العزيز، ولتكثيف الضوء قدر المستطاع على بعض القضايا والأحداث والصعوبات التي تحدث هنا أو هناك، وللحقيقة فأنا أتمتع بكامل الحرية بطرح ما أراه مناسباً ولائقاً، حتى وإن لم يحظ أحياناً برضا وقناعة البعض، لأنني من المؤمنين جداً بأن الكاتب الحقيقي هو الذي يكتب ما يحتاجه الناس وليس ما يُريدونه. أقوم بهذا الدور الذي أعتز به كثيراً معتمداً في المقام الأول على توفيق الله عز وجل، ومتكئاً على شيء من الحب والصدق والإخلاص والجهد، ومتسلحاً ببعض العلم والمعرفة والحرفية، هذا إضافة إلى حسن ظن بعض قراء الوطن، كل الوطن.
مر عيد الأضحى هذا العام مختلفاً واستثنائياً بالنسبة لي، فرائحة الموت غيبت كل التفاصيل البهية والجميلة لهذا العيد السعيد والمترع بنفحات إيمانية عكستها الأصداء القدسية لأيام الحج العظيمة، لقد تحولت أجواء الصخب والفرح والأمل التي ينثرها على استحياء هذا العيد إلى صمت وحزن وحسرة.
بحجم كفي الصغير، وبوزن لا يتجاوز الـ 300جرام، وبـ 19 أسبوعاً فقط لم يستطع رضا، أو هكذا أطلقت عليه أم لم تفق بعد من أثر التخدير، فضلاً عن هول الصدمة أن يقول كلمته الأولى على مسرح الحياة، لقد رفض ذلك القادم/الراحل الجديد أن يكتب فصلاً رابعاً من حكايتي الجميلة التي بدأت أحداثها الرائعة منذ 15عاماً، لم يضع له خطاً درامياً حقيقياً، وفضل أن يطل هكذا في مشهد أو اثنين، مكتفياً بحوار قصير جداً عبر شرفة الـ ultrasound، منهياً حضوره القصير بنظرة حزينة قبل أن يرحل بعد لحظات من مجيئه لهذه الحياة ـ الرواية ـ الميلودرامية.
في الغرفة المجاورة، اختلطت الضحكات والآهات والصرخات لتعزف من جديد لحن البقاء وسيمفونية الحياة. عبدالرحمن (26عاماً) رغم انضباطه الشديد الذي تعلمه من شركة أرامكو التي التحق بها منذ عدة سنوات يضحك فرحاً بقدوم البراء الذي يملأ المكان صراخاً يعلو قليلاً على آهات وتوجعات أمه الصغيرة التي لم تتجاوز الـ 22عاماً. أنا وأم مكلومة وضيف لم نتعرف عليه بعد ولا أظننا سنفعل ذلك، ضيف فضل الرحيل سريعاً في غرفة صغيرة تملأها الأجهزة والأسلاك والسجلات والمشارط والدماء، تماماً كما يملأها الحزن والسكون والأسئلة. الحمد لله على كل شيء، جملة عبقرية، وعبارة سحرية، بل هي أكثر من ذلك بكثير.
قطعة لحم صغيرة تغطيها الدماء ملفوفة على عجل في خرقة بيضاء، وضعت بلا رفق على طاولة بعيدة عن نظرات أبوين مصدومين لا يُريدان ـ بل لا يقويان ـ النظر إليها. مفارقة استثنائية، لا تحدث عادة إلا في مثل هذه التجارب المريرة. الطبيبات والممرضات يوزعن عبارات التهاني والعزاء على حد سواء، دون الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة أو مراعاة للفرق بين الحالتين. إنه أمر طبيعي يحدث كل ساعة تقريباً في قسم المخاض والولادة. فقد تأتي جملة الله يعوضكم مباشرة بعد جملة ألف ألف مبروك. هذه سنة الكون، درس رائع نتعلمه ـ أو هكذا يجب ـ في غرفة المخاض، هذه الغرفة التي تحمل الصور الأولى، وقد تكون الأخيرة للزائرين الجدد. نعم، قد يكون الكون مجرد غرفة صغيرة كما يُقال هذه الأيام نتيجة العولمة والارتباطات الكونية الهائلة، ولكن هذه الغرفة الصغيرة ـ غرفة المخاض والولادة ـ هي كذلك أيضاً ومنذ نشأة الخلق. هذه الغرفة الصغيرة تستحق التأمل والتفكر والدراسة.
ماذا لو قُدر لهذا الراحل أن يعيش طويلاً؟، ماذا عساه أن يكون؟ وهل سيكون عصبياً كأبيه؟ أم هادئاً كأمه؟ ولون عينيه، أسئلة كثيرة سقطت من فم أم صابرة، قرأتُها جيداً ـ أي تلك الأسئلة ـ بعينين قد اغرورقتا بالدموع.
البراء ورضا قدما لهذه الدنيا في نفس الساعة تقريباً، لكن الأول قرر خوض التجربة ـ تجربة الحياة ـ بكل عزم وإصرار، بينما فضل الثاني اختصار الزمن والمعاناة ورحل بهدوء وسلام. الأول يستحق الحياة، والثاني يستحق الخلود، أما نحن فنستحق الرحمة!
قد تكون هذه التجربة ـ تجربة الموت ـ قاسية ومريرة ولا يتمناها أحد منا، ولكنها على الجانب الآخر قد تبدو درساً مهماً في مسيرة الحياة، فالموت بكل ما يحمله من لوعة وألم وحسرة، لابد أن يُغربل ويُزلزل الكثير من المفاهيم والثقافات والقناعات والعادات والسلوكيات، وإذا لم يستطع الموت بكل سطوته وجبروته فعل ذلك وأكثر، فمن تراه قادراً على ذلك؟
قد تبدو بعض التجارب الإنسانية مجرد حالات خاصة، ولكنها في حقيقة الأمر ليست كذلك، بل هي الحياة الحقيقية بكل تفاصيلها وتناقضاتها ومفارقاتها، ولعل تسارع الأحداث والمواقف والتجارب هو الذي يُشكل هذه الحياة التي نعيشها. ولكن السؤال هنا: هل هذه التجربة الصعبة تستحق ذلك؟ بصراحة شديدة، لا أعرف!