واليوم، وبعد ما يقرب من ربع قرن على بياض تلك الأيام، لا زلت أتذكر بكثير من النوستالجيا ذلك الفصل المدهش وتلك المادة المقرر الاستثنائية في كل شيء من مشواري الدراسي. يومها كنت على أعتاب نهاية مرحلة الماجستير طالباً بجامعة كولورادو/ بولدر، وكنت أشعر بشيء من فراغ جدولي الدراسي عندما اقترح علي زميل دراسة بولندي تجربة تسجيل مادة بذات كلية الآداب تحت مسمى علم الإنسان وثقافات الشعوب. وبطبيعة المسمى والمادة، فقد كنا ما يقرب من ثلاثين طالباً من شتى الجنسيات والألوان والأديان. كنا نلتقي نظامياً لمرتين في الأسبوع ولمدة ساعتين في كل مرة ولكننا خارج الفصل والنظام نلتقي كل نهاية أسبوع في حفل ثقافي اجتماعي بضيافة أندية الطلاب التي أنشأتها الجامعة لكل عرق وفصيل من شعوب الأرض المختلفة. أستاذ المادة كانت يهودية ليبرالية لا تؤمن بالصهيونية ولا تأخذ الديانات على محمل الجد. كانت البروفسورة دوني كاتشوبي تكتب على رأس كل ورقة هذه العبارة على هذا الكوكب فإن قدرنا أن نكون زملاء والإنجليزية تسمح لسرد هذه العبارة في قالب سجع أخاذ بالغ الدلالة، كانت مفردات توصيف المقرر تتطلب أن نمر كل أسبوع على اكتشاف ثقافة واحدة من بين الثقافات الكونية المتاحة في طلاب المادة. في اللقاء الأول يستعرض الطالب/ الطلاب ثقافتهم وفي الثاني بنفس الأسبوع نتحول إلى نقاش مفتوح في نظرية النقد الثقافي وأيضاً جوانب التقارب والاختلاف في هذه الثقافة مع غيرها من المتاح في الفصل. كان محظوراً نقاش الأديان ولربما كان هذا عطفاً على أيديولوجية أستاذة المادة التي ترى فيها عوامل تفرقة. كان التركيز يذهب باتجاه المنتج الأنثروبولوجي الصرف في أشياء مثل تركيبة العائلة وروابط المجتمع وطقوس الزواج والأعياد وسلالم الموسيقى والفلكلور الشعبي والختان وكل ما يشبه ذلك في تفاصيل ثقافاتنا المختلفة. خذ مثلاً، ولطرافة ردة الفعل، حين أفصحت بالفعل أن زوجتي هي ابنة عمتي المباشرة وكيف ضجت بضع ثقافات إما لأنه محرم تماماً فيها أو لأنه غير مقبول وغير مستحب لديها خيار ارتباط الزواج من دم مباشر أو شبه مباشر، وللحق فقد صدمني هذا الاكتشاف قدر اصطدامهم بهذه المعلومة. وعندما حان دوري لشرح ثقافتي الخاصة استأذنت أستاذتنا في شيئين: الأول أن أتحدث عن ثقافتي السعودية الخالصة لا كعربي ولربما كان هذا لأنني لا أحمل نفساً قومياً فأنا عاشق لثقافتي الوطنية. الثاني، وقد قبلت به كاستثناء وحيد من بين كل الطلاب وشرحت بنفسها السبب لهم أن لا أفصل ما بين ثقافتي وديني لاستحالة تقديم هذا المحتوى الثقافي دون لباسه وإنائه. حضرت حفل نهاية أسبوع استعراض ثقافتي بالزي السعودي الخالص، ويؤسفني أن أقول: قبل أن يكون شبهة. اجتهدت زوجتي وكانت يومها شابة حديثة عهد بحياتي وبالمطبخ أيضاً في أن تعمل لنا وجبة سعودية. في نهاية الحفلة وقفت أستاذة المادة لتقول كلمتها الاعتيادية نهاية كل ثقافة لتقول: لقد أهدانا علي مفاتيح واحدة من أقدم الثقافات المغلقة على وجه الأرض ويحزنني أن علي لن يكون في فصلي قادما لأنه روح مختلفة في جدله وصخبه ونفس مفتوحة على الاكتشاف والمعرفة. كتبت ما قالته لي في ورقة صغيرة لا زلت محتفظاً بها إلى اليوم، وبالتأكيد كانت تجاملني ولكنها فعلت بداخلي ما لم تفعله أي جملة من أستاذ في حياتي. مررت في ذات الحياة بعشرات الفصول الدراسية ولكن يبقى ذلك الفصل وتلك المادة جامعة مستقلة في تفجير العقل باتجاه المعرفة. لم يكن فصلاً دراسياً بقدر ما كان أحد فصول حياتي ومنعطفاتها التي لا تنسى، وأنا لا أكتبه اليوم من باب المذكرات الخاصة بقدر ما أطرح السؤال لكل فرد: هل بالذاكرة ولو مقرر واحد في فصول الحياة!!!