الأوامر الملكية الأخيرة لم تستهدف المواطن ذاته بل استهدفت الفكر الاستهلاكي الخاطئ عنده. ذاك الفكر الذي جعلنا سوقا للسلع الرديئة ذات الأسعار المرتفعة
لن أتحدث بمثالية مفرطة عن الخير الذي قد تأتي به الأوامر الملكية الأخيرة، التي- بلا شك- مست شريحة واسعة من المجتمع السعودي وأنا منهم؛ لكني سأحدثكم من واقع تجربتي الشخصية.
فبعد صدور الأوامر الملكية وما جاء فيها من حذف للبدلات، خرجت لشراء أغراض البيت مرتين، في المرة الأولى قصدت متجرا صغيرا قريبا من البيت، وحين خرجت بالأغراض تعجب سائقي من كميتها ومن حجم العربة التي خرجت بها، وقال لي بلسان مضطرب (بس هذا؟!)، طبعا هو لا يدري أني دفعت مقابل هذه الأغراض (42) ريالا فقط.
في المرة الثانية خرجت إلى هايبر ماركت قريب، وكنت قد قررت أن أشتري الأغراض التي (يحتاجها) البيت فقط. كانت أول خطوة قمت بها هي تفقد الأسعار قبل الأوامر وبعدها، وتقييم الحس الوطني عند كبار التجار، لكني لاحظت أن الأسعار على ما هي عليه؛ الصنف الذي أوشك تاريخه على الانتهاء مخفض، وإذا كانت الكميات في المخازن كبيرة فإنك تأخذ القطعتين بسعر القطعة، ومثلما تعودنا؛ السلع الاستهلاكية الرئيسة (الأرز، السكر، الشاي، الصابون، اللحوم،...) على أسعارها المتجمدة طوال العام.
جمعت أغراضي (التي يحتاجها البيت لا التي يريدها قاطنوه)، وخرجت بعربة محملة إلى أعلاها (مثل تلك التي أخرج بها عادة في رمضان). وصلت الكاشير ويدي على قلبي؛ لأني متأكدة أني سأدفع المبلغ ذاته (من1500-2000)، لكني تفاجأت بأن المبلغ المطلوب هو (307) ريالات فقط. نظرت إلى الشاشة وإلى العربة عدة مرات، ثم دفعت المبلغ وخرجت.
حين ركبت السيارة رحت أقلب الأمر في رأسي إلى أن تبينت السبب؛ فقد كنت سابقا أشتري كل ما أريد شراءه لا ما أحتاج فعلا لشرائه. هذا الفكر الاستهلاكي هو ما عجزت الدولة عن تغييره طوال السنين الماضية، فقد كان من الرسوخ والتمكن بدرجة لا تجدي فيها خطابات الترشيد، وبذل أدواته بالمجان (وهو ما قامت به الدولة مشكورة)، لأنه غدا جبلا صلبا راسخا في عقل المستهلك السعودي؛ لذا تطلب الأمر هذا الزلزال الخطير لتفتيت صخوره الصلدة.
الأوامر الملكية الأخيرة لم تستهدف المواطن ذاته بل استهدفت الفكر الاستهلاكي الخاطئ عنده. ذاك الفكر الذي جعلنا سوقا للسلع الرديئة ذات الأسعار المرتفعة طوال العقود الماضية. ولا شك عندي أنه حين يقصر كل منا مشترياته على حاجاته الرئيسة فسوف تتغير حال السوق وحال السلع من حيث الجودة والمتانة، لأن أصحاب السلع الرديئة سوف يفلسون قريبا ويعودون إلى رشدهم، فتنخفض أسعار الكماليات- التي صارت عندنا أغلى من الأساسيات- وتعود سوقنا المحلية للانتعاش، وقد نقتنع لاحقا بالمنتج الوطني ونطوره، فنغدو دولة صناعية، منتجة، لا بلدا مستوردا مستهلكا لأسوء السلع بباهظ الأثمان.
ولا يمكن ونحن نتحدث عن تغيير الفكر الاستهلاكي للمشتري أن نتجاهل الحديث عن توجهات التجار ورجال الأعمال، فعدد المولات والأسواق عندنا في تزايد مستمر، حتى غدت شغلا شاغلا للأسر، ومقرّا وحيدا للنزهة والترفيه، وصارفا أولا للوقت والمال والاهتمامات؛ فصار الواحد منّا لا يجد وقتا لصلة رحم أو زيارة قريب، وإن فعل كان السوق (المول) مكانا للقاء الذي يستهلك فائض الميزانية الشهرية للأسرة. وحين ندخل هذه الأسواق لا نرى جديدا؛ فالماركات هي هي، في كل المولات، والأسعار أيضا على حالها، فليست لدينا سوق للماركات المخفضة (أوت لت) مثلما هي الحال في دول العالم من حولنا، كل ذلك جعل منا مستهلكا مثاليا وجعل من بلدنا وجهة مثالية لتسويق تلك الماركات بأسعار مرتفعة.
ختاما فإن الأمنيات التي تخامرنا كبيرة حيال تغير الفكر الاستهلاكي للمواطن؛ تاجرا كان أو متسوقا، لذا لابد من التركيز- في الفترة القادمة - على نشر الوعي الاستهلاكي، عن طريق الدورات التدريبية والبرامج الإعلامية الهادفة، لكن ذلك كله لابد أن يُسبق بتخفيض للأسعار، كانت قد وعدت به حماية المستهلك عدة مرات، فلعل الوقت قد حان للوفاء بتلك الوعود.