تقزيم السعودية بالنسبة للأميركان عمل يقوم مقام تقسيمها ويؤدي الثمرة نفسها، لذلك نجد أن محاولات التقزيم تعمل بها أميركا على أكثر من صعيد

في أوائل السبعينات الميلادية من القرن المنصرم نشرت مجلة هاربر الأميركية مقالا لكاتب عرَّف نفسَه برمز الجندي المجهول قدَّم فيه مشروعاً لاحتلال الولايات المتحدة شرق الجزيرة العربية من الكويت وحتى دبي، وتهجير جميع سكان تلك المناطق إلى نجد بحيث يتم إفراغها لعمال من تكساس وأوكلاهوما، وقد سُئل السفير الأميركي لدى السعودية آنذاك جيمس إيكنز في صحافة بلاده عن هذا المقال فأجاب بأن من يُرِيد حل مشكلة الطاقة في الولايات المتحدة بهذه الطريقة، إما أحمق، أو مجرم، أو عميل لموسكو.
وفيما بعد أدت كلمة السفير هذه إلى إقالته إذ تبين أن الكاتب الحقيقي للمقال هو رئيسه في العمل، وزير الخارجية الأميركي هنري كسينجر.
ومنذ ذلك الحين وتقسيم المملكة العربية السعودية يُعَدُّ في السياسة الأميركية أحد الأفكار المطروحة للهيمنة على مصادر النفط، واشتهر عدد من الخرائط لتقسيم المنطقة وكان أكثرها شهرة خارطة برنارد لويس التي يُقال إن الكونجرس الأميركي وافق عليها بالإجماع سنة 1982 في جلسة سرية، وهو خبر متداول في العديد من المقالات لكنني بعد البحث لم أعثر له على مصدر، ويغلب على ظني حتى الآن: أنها من المعلومات التي يُعَادُ تدويرُها بكثرة حتى يظن المرءُ أنها صحيحة لكثرة تكرارها وتعدد ناقليها، وفي النهاية لا تزيد قيمتها عن كونها إشاعة، قد يكون وراء انتشارها أكثر من جهة مستفيدة.
وقد كثرت المقالات التي تناقش هذه القضية وتعددت التسريبات التي كان من أبرزها ما نُشِر في عام 2002 في صحيفة الشرق الأوسط حول اجتماع سري تم فيه مناقشة هذا الأمر، واعتذرت الخارجية الأميركية آنذاك.
ولا شك أن قليلاً من هذه التسريبات فقط هو ما ثبتت صحته كخارطة لويس، ومنها ما تبين إما كذبه أو تعثره كالتسريب الذي يتحدث عن دراسة أقرها البنتاجون للانتهاء من تقسيم السعودية قبل عام 2015 حيث تأكد بمضي الزمن أن هذا التسريب إما كاذب أو مشروع فاشل أو لم تتم الموافقة عليه.
ومع ذلك فأصل الفكرة ووجودها في دوائر اتخاذ القرار الأميركي من الأمور التي لا أعتقد أنه يمكن الجدال في صحتها، فهي متداولة في الصحافة الأميركية المتخصصة، وعلى أَلْسنة بعض الساسة، أما الذي يمكن المجادلة فيه فهو مدى تبني الولايات المتحدة لهذه الفكرة كإستراتيجية واجبة التحقيق.
والذي يترجح لي من متابعة خاصة: أن تقسيم السعودية، وإن كان فكرة مطروحة بقوة للنقاش في الولايات المتحدة إلا أنها حتى اليوم ليست مشروعاً تسعى أميركا أو تُفَكِّر في القيام فيه بنفسها، وأقول: حتى اليوم، أي: أن الأمر قد يتغير، لكنها لن تقف حائلاً دونه لو حدث بشكل تلقائي، بل إنها تُراقب الوضع بحيث لو حدث أي تغير في المنطقة ستتخذ الإجراء الذي تراه مناسباً.
ونعود إلى وصف السفير الأميركي جيمس جينكنز من يريد تقسيم السعودية بأنه مجنون أو مجرم أو عميل لموسكو فأقول: إنه لا زال وصفاً صحيحاً حتى الآن بالرغم من مرور أربعة وأربعين عاماً عليه، كما أنه ينطبق بدقة على هنري كيسنجر منذ ذلك الحين وحتى اليوم، فكيسنجر وعدد ممن يوجهون السياسة الأميركية لا يعملون لصالح بلادهم، وفي رأيي أن محاولة فهم جميع تصرفات الإدارة الأميركية على أساس تقدير المصالح الأميركية قد ثبت فشلها، فمثلاً لا تزال قراءة غزو الولايات المتحدة لأفغانستان من زاوية مصالحها السياسية أو الاقتصادية قِراءة غير مقنعة للكثيرين، ونحتاج إلى الكثير من التعسف لشرحها على هذا الأساس.
وكذلك غزو الولايات المتحدة للعراق، قد ثبت حتى للأميركيين أنفسهم أنه ضد مصالح بلادهم.
ولمحاولة قراءة تصرفات الإدارة الأميركية في كل العالم وليس في الشرق الأوسط وحسب، لا بد من استحضار عدد من المُحركات أحدها وليس كُلُّها مصالح الدولة الأميركية، وهناك مُحَرِّكات أُخَرى، كالفساد المالي، والنفوذ الصهيوني، وهما المحركان الأكثر التصاقاً بالعلاقات الأميركية الشرق أوسطية واللذان من خلالهما يُمْكِن بيسر تفسيرُ غزوِ العراق، والسماحِ للنفوذ الإيراني بالانبساط في المنطقة، ودعمِ المنظمات المتطرفة من جهة ومحاربتها من جهة أخرى.
ومن خلال فهم هذين المُحركين يمكن أيضا فهم تراجع العلاقات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، فعلى سبيل المثال: التخطيط لإنهاك السعودية اقتصادياً من خلال إقرار الكونجرس وبالإجماع قانون رفع دعاوى ضد السعودية من قِبَلِ أُسَر ضحايا 9/11، لا يُمْكِن القول بأنه قرار لصالح الولايات المتحدة كدولة وليس لصالح الشعب الأميركي، بل ما يمكن أن يصيب الأميركان جرَّاءه لو تم إقراره هو خسائر اقتصادية حادة وانتكاس في علاقاتها الدولية حتى بحلفائها الغربيين، وهذا أمر كتب عنه عدد من القانونيين والاقتصاديين الأميركان.
المستفيد الوحيد من هذا القرار هم الصهاينة بشكل غير ظاهر، والإيرانيون بشكل ظاهر وجلي، أما أميركا دولةً وشعباً فخاسرةٌ تماماً، هذا أحد أمثلة تراجع العلاقات الأميركية السعودية، ويمكن أن تسحب هذه القاعدة على جميع مظاهر هذا التراجع لتجد أن الولايات المتحدة هي الخاسر الأول، وأن الفائدة هي فقط للمشروع الصهيوني وللفاسدين ماليا.
وعلى أساس كون القرارات الأميركية لا ترجع دائما إلى مصالح أميركا، هل يمكن أن يُقَر مشروع تقسيم السعودية يوماً ما؟
الجواب: في تقديري أن وضع المملكة الراهن من حيث قوتها المعنوية والمادية والإدارية يجعل إقناع الشعب الأميركي ونوابه ورؤسائه بمثل هذه الفكرة لا يزال ضرباً من الجنون كما أشار السفير جيمس إيكنز، لكن تقزيم السعودية بالنسبة للأميركان عمل يقوم مقام تقسيمها ويؤدي الثمرة نفسها، لذلك نجد أن محاولات تقزيم السعودية تعمل بها أميركا على أكثر من صعيد، ومع ذلك فمشروع التقزيم هذا والذي هو قيد العمل به لم يحظ بالكثير من الدراسة والتأمل كما حظي بهما مشروع التقسيم الذي يعد في تقديري من المستبعدات حاليا.