حملة إسقاط الولاية أخذت أبعادا أخرى من ناحية إيضاح ما يقع على النساء من ظلم، وهذا واضح تماما في الواقع المحيط، ولكن تسليط الضوء عليه يجعله أكثر أهمية
تقريبا تجاوزت الخمسة والسبعين يوما تلك الحملة الاجتماعية التي قادها عدد من الفتيات على تويتر في مسألة إسقاط الولاية، أي إسقاط ولاية الرجل على المرأة في السعودية في كافة المجالات النظامية، بحيث تصبح المرأة ولية نفسها في كل قضاياها من الدراسة وحتى السفر والمرافعات القضائية وغيرها.
هذه الحملة أخذت تكبر وتصبح أشبه بحملات قيادة المرأة للسيارة سابقا، لكن المختلف هذه المرة أن المسألة تتعدى قيادة السيارة إلى مسألة إسقاط الولاية بالكلية، لكن تبقى هناك إشكالية في مسألة إسقاط الولاية في الزواج، لأنها مسألة شرعية مرسخة في العرف الاجتماعي والديني، إذ تعتبر موافقة ولي الأمر شرطا من شروط صحة عقد الزواج، وهذا طبعا في بعض المذاهب الفقهية وليس كلها، وهذا باب آخر له ما له من تشعبات، ليس هنا الحديث عنها.
فكرة إسقاط الولاية تأخذ من مسألة الحق الإنساني في تقرير المصير. المرأة هي من تقرر مصير حياتها وليس الرجل، وهذا على المستوى الحقوقي والشرعي في بعض المذاهب مقبول، لكن الواقع الاجتماعي والنظامي في السعودية لا يعطي المرأة هذا الحق، إذ يفترض في معاملات المرأة موافقة ولي الأمر، فيفترض مثلا موافقة ولي الأمر في الدراسات العليا، وهذا الواقع الاجتماعي والنظامي يحد من حرية المرأة ومن تقرير مصيرها، بحيث تكون كامل العصمة في يد الرجل حتى ولو كان ولي أمر المرأة ابنها، إذ تتحول ولاية المرأة من زوجها إلى ولدها الذي يتجاوز الخامسة عشرة من عمره. هذا غير قضايا العنف الأسري التي تأخذ مساحات أبعد من مسألة الولاية، ولكن هذا موضوع آخر له ما له من أبعاد أكثر إيلاما على الصعيدين الاجتماعي والنظامي والذي لا يحل المسألة بل يعقّدها.
حملة إسقاط الولاية أخذت أبعادا أخرى من ناحية إيضاح ما يقع على النساء من ظلم، وهذا واضح تماما في الواقع المحيط، ولكن تسليط الضوء عليه يجعله أكثر أهمية، فالقضية لا تخص الفتيات المعنفات، وإنما تتعداها إلى حق المرأة نفسها في تقرير مصيرها، بحيث لا تكون تحت طائل رحمة الرجل أسوة بنساء الخليج أو العالم العربي أو النساء في كل العام، وهي حملة إن تحقق جزء منها فهو انتصار حقيقي للمرأة بوصفها إنسانا كامل الأهلية، ولسنا بحاجة إلى تذكير الرجل بأنه لن يضره أن تكون المرأة ولية أمرها.
قبل سنوات كانت هناك حملة ذكورية الطابع مع أن من قادها هن بعض النساء اللواتي يتماهين مع العقلية الذكورية وكانت تحت شعار (ولي أمري أدرى بأمري)، لكنه شعار لم يصمد كثيرا لأنه يخالف الحق ولا يصب إلا في مصلحة الرجل، إضافة إلى أنها حملة تكرس ما هو متكرس وتؤكد على ظلم المرأة.
حملة إسقاط الولاية أخذت منحنيات عديدة، وتم تشويهها كثيرا، ومع ذلك صمدت فتيات تويتر في المواصلة، فمن الإشاعات التي تم الترويج لها -ولا أعرف عن حقيقتها بالفعل- هو أن وراءها يهودي، وإن كنت أشك في صحة مثل هذا الأمر، وإذا كان صحيحا فالحق لا يضره نوعية من طالب به، بل هو حق بغض النظر عمن بدأه، إضافة إلى رفض الفتيات دعوات التظاهر في الشوارع لكونه يخالف أنظمة البلد وهذا ما جعل هذه الحملة تسير بشكل جيد حتى الآن، لأنها تطالب بحق إنساني دون الإخلال بأمن هذا البلد وأنظمته المتبعة.
الحق يبقى حقا، بغض النظر عن كيفيته أو نوعية المطالبين به. بعض الرجال وضع يده في يد هؤلاء النساء ودعمهن معنويا، وبالطبع خالفهن الكثير من الرجال، لأن فيه إسقاطا لتسلط ذكوريتهم، إضافة إلى أن بعض النساء المتماهيات مع العقلية الذكورية كُنّ ضد هذه الحملة.
شخصيا لا أتوقع أن تثمر هذه الحملة كثيرا، مثلها مثل الحملات السابقة لقيادة المرأة، فتويتر يبقى عالما افتراضيا، والمطالبات عادة ما تنتهي بعد فترة، لكن المطالبة بحد ذاتها فكرة مثمرة على المدى البعيد، وتخلق نوعا من الجدل الفكري داخل المجتمع، لتزيح بعضا من العقليات التي تصمد ضد التغيير، وتخلخل بعض المفاهيم المتكرسة منذ سنوات، مثلها مثل قيادة المرأة التي أصبح من المقبول تماما الحديث عنها في أي مجلس بخلاف سنوات ماضية، والتي كان الحديث عنها أشبه بالانتحار الاجتماعي في حين تسمع الآن قبولا لهذا الأمر حتى من داخل الخطاب الديني في السعودية الذي كان متوحشا ضد 40 امرأة سعودية قدن في بداية التسعينات.
الحق الإنساني يبقى حقا، مهما تقادم الزمن عليه، ومهما تغيرت الظروف الاجتماعية، فحق المرأة يبقى حقا إنسانيا لأن لها كيانها الخاص، إضافة إلى أنها تكمل الرجل في مسيرة هذه الحياة، ولا تقف ضده، الأمر الذي يجعل من الواجب أن يكون معها لا ضدها، ومطالبتها بحقها لا تعني إسقاط حق الرجل، بقدر ما هي إسقاط للسلطة الذكورية التي يستغلها بعض الرجال للتعدي على حقوق المرأة.