في ظل غياب السينما نفاجأ كل يوم بفيلم قصير أنتج بإمكانات فردية، وفيلم (بلال) -إنتاج سعودي إماراتي بدعم من صناعة السينما في أميركا- يعد انطلاقة لفن هادف استغرق سنوات، مهما كان من نقص فيه
الفن (وأعني هنا المسرح والتلفزيون) لا يزال يناضل في عالمنا العربي عامة، فضلا عن الوصول إلى النجاح، أو إلى الخلود الذي استطاعت أن تصل إليه أعمال لا تزال مستمرة بالعرض، كمسلسل (درب الزلق) وعمره 40 عاما أو مسرحيات عادل إمام وأهمها: (مدرسة المشاغبين)، المفارقة أن هذين العملين اعتمدا على التلقائية والخروج عن النص! فما سر خلود هذه الأعمال وزوال غيرها؟!
حسب التطور المنطقي المرتبط بالزمن يفترض أن يكون الإنتاج الفني اليوم أكثر احترافية، كما يفترض أن يكون قد تفوق على ما فات من إنتاج قارب عمره نصف القرن. لكن الفن اليوم أصبح أكثر شكلية، وأقل فنية، وهناك عبارة جميلة للكاتب شايع الوقيان أطلقها: (عزيزي الممثل الخليجي، لا تمثل. كن على طبيعتك؛ لأنك عندما تحاول التمثيل لا تعود ممثلا!)، وهي صادقة في وصف أن الفن الخليجي لا يعبر عن واقع ينقله الفنان بصدق ينسينا أنه مجرد ممثل! فهل تلقائية الفنان القديم أصدق من معرفة وعلم الممثلين الجدد؟!
حين تشاهد بعض الممثلين المميزين، عربا أو غربيين، تجد أنهم قبل تمثيل الدور يعيشونه بصدق، فيقتربون من الشخصية التي سيمثلونها ويعرفون دقائقها، لكن برأيي يبقى الأهم النص أو الكاتب الجيد الذي يقدم النص المناسب، وهو الغائب الأول الذي يرجع إليه سبب التهافت الفني برأيي، فغياب النص الجيد أو تشويه الفن لنص جيد ثم تقديمه ممسوخا معضلة لا حل لها. وغياب كاتب عن الحياة قد يميت فنانا كان جيدا، لأن هناك من يكتب له، هل تذكرون أي ممثل مات فنيا بعد رحيل محمد الماغوط؟!
الوضع في السينما مشابه إلا أنها فن يسهل الوصول إلى العالمية من خلاله، بتقديم حكاياتنا وأبطالنا ولو كان النص غير عربي والممثلون كذلك! وقد سبقت أفلام معروفة كالرسالة وعمر المختار لأنها حملت رؤية فنية وثقافية تمثلنا عربا ومسلمين.
تعرض السينما في العالم فيلمين، الأول هو فيلم بلال الذي اقتبس من حكاية الصحابي الجليل بلال بن رباح، وهو عبارة عن رسوم متحركة يبدو أنه تعمد اختيارها تجنبا للجدل حول تمثيل الصحابة، وما يميز هذا الفيلم أن المنتج سعودي، والقضية تلامسنا وتلامس حق الإنسان في الحياة بحرية، رغم جمال التجربة وتفوق الفكرة كونها الأولى بالنسبة لنا -وهذا باعث على التفاؤل- إلا أن من يتابع الفيلم سيجد أن تحويل بطولة صحابي إلى عمل كرتوني أفقدها الكثير من أهميتها، وهي كما يبدو رسالة جميلة موجهة لغيرنا تحمل تسامح الإسلام وقيمه العظيمة، ولعل من أجمل ما قدم عن التسامح هو في رمزية السيف الذي يمثل قوة العقل ولا يمثل الغضب أو الثأر والعدوان، صور تفاني المسلمين وتكاتفهم مع بعضهم جميلة في الفيلم أيضا، والمنتج وفريق العمل يشكرون على جهودهم التي استمرت لسنوات حتى أثمرت عملا جميلا.
الفن رسالة مهمة قد تكون مباشرة وقد تخفى فتحولك للتعاطف مع قضايا ليست تعنيك، وبالمقابل تبعدك عن قضاياك الخاصة.
أليس من الغريب ألا يوجد فيلم يمثل القضية الفلسطينية وهي قضيتنا الأم؟
في تعريف المنتج والمخرج أيمن طارق جمال فيلم بلال قال: (الغريب في العالم العربي برغم كل التطور، هذه الصناعة الوحيدة بعد دراستنا لها وجدنا أنه قبل 30 سنة كان هناك إنتاج ودبلجة عربية تتضمنان قيما متطورة مقارنة باليوم!) وتحدث عن أهمية صناعة المحتوى، وحديثه ارتبط بدراسة لواقع الفن وواقع الأطفال وميولهم لأفلام الكرتون وأبطالها.
كما قيل في ظل غياب السينما نفاجأ كل يوم بفيلم قصير أنتج بإمكانات فردية، واليوم (بلال) -إنتاج سعودي إماراتي بدعم من ممثلي وصناعة السينما في الولايات المتحدة- يعد انطلاقة لفن هادف استغرق سنوات، مهما كان من نقص فيه، وفيلم آخر كذلك تبعه مباشرة هو (بركة).
في الوقت ذاته ستجد أفلاما أخرى غربية وشرقية تعزز قيم منتجيها وتقدم رسالتها من عقود بإلحاح، فأتمنى أن ندرك أن الرسائل الفنية مهمة جدا، وتحتاج إلى جهود داعمة، خاصة عندما تكون تعزز قيما وأهدافا بشكل إبداعي، بعيدا عن المباشرة الفجة.
الفن في هذا العصر يحقق أقوى تأثير وأعظم إيرادات تفوق كثيرا ما يتحقق من مناشط الحياة الاقتصادية، فهلا استثمرنا في قيمنا لنصنع أجيالا أوعى وأبدع تمتلك قدوتها؟