أنور بن محمد آل خليل*

لست قادرا على تتبع مآثر ومنجزات يحيى الألمعي، في عجالة كهذه، فهي لن تأت على كل شيء مما حفلت به حياته الإعلامية والأدبية، مهما وظفت أدوات البلاغة والإيجاز القاصرة عن الإحاطة بما يجب أن يقدم به، إلا أن الألمعي  عصامي صنع كفاءته بنفسه، وتغلب على معضلات عصره، خاض غمار المعرفة وغاص في بحور الثقافة، صحفي أثرى بالخبر والمقالة والنقد والمناشدة صفحات الصحف منذ سبعينات القرن الهجري الماضي، وشاعر نظم مفردات بوحه لآلئ تبلسم حروفها الوجدان، وفي التاريخ رصد بحس الباحث المتمرس صفحات التاريخ أكاليل من زمرد لا تعتريها شوائب ولا أهواء، وخاض تجربة السرد، فأنجز منه عملا لم ير النور بعد!
وأصدقكم القول، إنني تفاديت الحديث عنه، لا لشيء إلا لأن المكان مهما اتسع فلن يستوعب كل ما في حديقة الألمعي من أزاهير، زرعها بشتى ألوان المعرفة والعطاء. غير أني وجدت نفسي أمام هذا الخيار الذي لا مفر منه ولا بمقدوري تجاوزه، فلا يمكن أن أستعرض وجوه التاريخ الثقافي المشرقة دون أن أعرج بالحديث عن أبي إبراهيم، ولا يكون الحديث عن الصحافة في عسير بل في الجنوب كافة دون أن يتسنم يحيى بن إبراهيم الألمعي مكان الريادة والإنجاز، فهو واحد من أغزر من قدم للصحافة الخبر والمقال والأدب، خدمته في ذلك سعة الإطلاع وكثرة التنقل والترحال في ربوع مناطق الجنوب، إضافة إلى العلاقات التي نسجها مع صناع الصحافة في المملكة، خاصة في الحجاز.

سر ظهران الجنوب

عرفت أبو إبراهيمعن قرب منذ ثلاثة عقود ونيف، وإن كنت قرأته من قبل على صفحات الصحف، ومؤلفه الشهير رحلات في عسير، فعرفت فيه عظمة الإنسان المحب للحياة والوطن والمجتمع، عرفته أنيقا في كلامه وهندامه وبشاشة محياه.
هاتفته ذات مرة قبل نحو أربع سنوات من رحيله، وطلبت منه الإذن بزيارته، فلم يتردد -وهذا كان ديدنه منذ عرفته- غير أني أردفت طلبي بأني لن أكون وحدي في هذه الزيارة، فلم يسل عمن أرافقه، بل قال حياكم الله، قلت ألا تود أن تعرف من هو الضيف؟ قال لا يحق لي أن أسأل عن كريم يود زيارتي، فالفضل له!
قلت أنا سأخبرك، إنه الدكتور عبدالعزيز السبيل، وكيل الوزارة للشؤون الثقافية، وسنكون في حضرتك على الموعد.
حضرنا في الوقت المحدد، وما هي إلا لحظات بعد جلوسنا تحدثت فيها إلى الدكتور السبيل عن مضيفنا ومشواره الثقافي، فأخذ الدكتور عبدالعزيز يُقض الضوء في ذاكرة المضيف، ويصغي إليه بأدب جم. 
دار بينهما حوار ثقافي تناول نشأة الصحافة في أبها والمناشط الثقافية وصالوناتها الأدبية.
كنت أنصت إلى ما يشبه الندوة الثقافية، وآثرت الصمت أمام ذلكم النهر الدافق بمعلومات لم أسمعها أو أقرأها من قبل.
تحدث عن أحداث جسام تناولها صحفيا نشطا، منها تغطيته الغارات الجوية التي تعرضت لها المنطقة إبان الثورة اليمنية، ومقترحه الذي نال عليه شكر الديوان الملكي، بتسمية ظهران الجنوب بهذا الاسم، إذ كان يطلق في السابق يمن كاتجاه جغرافي بدلا من جنوب، وذلك لتمّيزه عن ظهران المنطقة الشرقية.
فحسبما كانت عليه الثقافة الشعبية في تسمية الاتجاهات الجغرافية، كانت تُطلق على كل ما تيامن عن الكعبة بيمن، كقول أهل رجال ألمع: ألمع الشام وألمع اليمن. وكلاهما قبيلة واحدة متجاورة في قلب منطقة عسير لا يفصل بينهما بُعْد جغرافي يذكر، اللهم إلا أن قسما يقطن في الجهة الشمالية من القسم الثاني الذي يقع في الجهة الجنوبية.

النشأة

ولد الأستاذ يحيى الألمعي في رجال ألمع عام 1356، لأسرة ميسورة الحال، حيث تلقى تعليمه الابتدائي، امتهن بعدها التجارة حتى غادر بلدته عام 1373 ميمنا تلقاء جدة، وهناك انخرط في السلك الوظيفي بوزارة الصحة إلى عام 1375، عاد بعدها إلى أبها فتقلب في الوظائف الحكومية بين ديوان الإمارة وإدارة الجوازات والجنسية، متنقلا حسب ظروف العمل بين عدد من مدن منطقة عسير، حتى حطت به عصا الترحال الوظيفي ثانية في أبها إلى أن تقاعد عام 1415. 

حلو ومر
 

أشرعت له كل الصحف دون استثناء صفحاتها منذ عام 1376، فطاف بقلمه يطرزها تارة بالخبر وثانية بالنقد المجتمعي والإداري وثالثة بالشعر والتاريخ.
على أن زاويتيه الشهيرتين: حلو ومر، ولمسات وهمسات كانتا الأكثر احتضانا لنشاطه الصحفي، والدلالات واضحة في اختياره الدقيق لهذين العنوانين، فبقدر ما فيهما من كلاسيكية، إلا أنهما يوحيان بمن يمسك بالعصا والجزرة، يشيد عندما تكون الإشادة واجبة، وينتقد حيث يجب أن يكون الانتقاد.

رواية لم تنشر
أتُرى مثل هذا الأديب الذي لم يكلّ يوما عن البحث والتقصي والقراءة والاقتناء لجديد المعرفة، ألا يثري المكتبات بخلاصة فكره وبديع قافيته؟
بالتأكيد، لقد فعل ذلك في أزمنة قَلّ فيها النشر، فهذا إصداره الأول رحلات في عسير الذي يعد من أوائل الإصدارات في المنطقة، ثم أتبعه برصد وشرح للأمثال الشعبية في المنطقة الجنوبية. أما الشعر، فكان عشقه الدائم، إذ أصدر على التوالي دواوينه: عبير من عسير، وروابي عسير، وأحاسيس شاعر.
غير أني أعتقد أن في مخطوطاته التي لم تنشر بعد، قيمة معرفية مضافة، من حيث الفائدة والقيمة العلمية، ومن بين درره المكنوزة رواية الشهاب الملتهب، وهي العمل السردي الوحيد الذي أنجزه، إذ لم يسبق له أن نشر نصوصا سردية. وهناك من بين المخطوطات كتاب الإيضاح والتيسير في تاريخ عسير، ودار حديث سابق مع الدكتور فهد السماري حول هذا الكتاب، رجوته أن تتبنى دارة الملك عبدالعزيز طباعة الكتاب، وأكرر الرجاء مرة ثانية لدارة الملك عبدالعزيز بأن تتبنى طباعة هذا السِفر الذي سيكون -بإذن الله- إضافة جديدة لما سبقه من جهود تبحث في تاريخ المنطقة.

صفحة عسير والغارات المصرية 
لم أرصد على الأقل فيما بين يدي من معلومات أن صفحة نشأت وخُصصت كامل موادها التحريرية وأخبارها لمنطقة من مناطق المملكة قبل صفحة عسير التي تبنت نشرها ضمن أعدادها صحيفة عكاظ، وأشرف على تحريرها بالكامل يحيى الألمعي وزميله سليمان الحفظي، فكانت هذه الصفحة هي المتنفس الإعلامي الأول للمنطقة، أوصلت بصدورها صوت المواطن وحاله وأحواله ومتطلباته إلى صناع القرارات التنموية.
تحدث عن هذه الصفحة وأهميتها أمير المنطقة في ذلك الوقت، تركي بن ماضي، من خلال مقال صحفي له نشر في الصفحة ذاتها جاء فيه: هذه الفكرة العظيمة التي قام بإنفاذها كل من الأستاذ يحيى بن إبراهيم الألمعي والأستاذ سليمان الحفظي، ففتحا بذلك مجالا واسعا لمن يريد أن يتقدم بما لديه من توجيهات وآراء ومقترحات مفيدة وبناءة. وذلك بواسطة هذه الصفحة المباركة ذات الأهداف السامية التي نرجو لها التطور من صفحة إلى صحيفة... إلا أن الدور الأهم في نظري، هو أن صدورها كان في وقت شديد الأهمية،  بين عامي 1382 و1384، إذ وقعت في هذه الفترة واحدة من أشد الأزمات التي مرت بها المنطقة من جهة تعرضها لعدة غارات جوية مصرية إبان الحرب اليمنية، فكان يحيى الألمعي يقوم بما يشبه دور المراسل الحربي، ينقل الأحداث والتطورات، ويغطي مسارات تطوع أبناء منطقة عسير للدفاع عن وطنهم.  وهنا يجب أن ندرك المشاق التي كان يتعرض لها الألمعي وزملاؤه في متابعة الأحداث وتصويرها، ثم إرسالها إلى الصحيفة في جدة، في زمن ليست فيه هواتف ولا وسيلة اتصال غير البريد أو البرقية، إذ كان يرسل أخباره المستعجلة برقيا، ثم تتبعها التفاصيل عبر البريد!.

متى تكرمه أبها
كثيرا ما سمعت الألمعي يتحدث باعتزاز عما تلقاه خلال حياته الصحفية من خطابات الشكر الواردة من الديوان الملكي، وعلى الأخص كتاب الشكر الذي تلقاه بخصوص مقترحيه حول مسمى ظهران الجنوب، وكتاب الشكر الثاني حول فكرته الإنسانية التي طالب فيها بتأسيس جمعيات خيرية في أنحاء المملكة، تعنى بشؤون الفقراء وتلبية احتياجاتهم، وخزانة مكتبته ممتلئة بالدروع وشهادات التقدير، من عدد من المؤسسات الأدبية، غير أن مدينته أبها التي أفنى عمره في خدمتها، لم تفه حقه من التكريم، فلا شيء فيها يذكر لهذه القامة السامقة التي تتلمذ في مدرستها أجيال على فن الكتابة الصحفية.  رجوت أن تكون في أبها حديقة أو شارع يحمل اسمه، ولكن لعلها هنا تذكير  ومناشدة أن تحيي أبها أعلامها، فلذلك دلالة على التحضر والوفاء، إذ إن الأمة الحية هي التي تذكر بأعلامها.
 

وترجل فارس الكلمة
كانت ساعة حزينة تلك التي تلقيت فيها خبر رحيل الأستاذ يحيى الألمعي، صباح الثالث من محرم عام 1433، وهو حزن عمّ الوسط الثقافي في أبها.
كم كنت أقصد داره عندما أحتاج لمعلومة أو أتزود بخبر ساد ذات يوم مضى. كم كنت أثقل عليه بحواراتي، وكم كان يكرمني بأحاديثه المشوقة.
رحل الألمعي دون أن يحقق أماله في طباعة مخطوطاته المتراصة كالبنيان على أرفف مكتبته. رحل الألمعي بعد أن تعب وأتعب من بعده بإرثه العلمي الضخم ومنهجه السوي ومدرسته الفريدة.
*باحث في التراث