فشل مؤسستي الأسرة والتعليم في غرس ثقافة العمل أدى إلى ضعف إنتاجية المجتمع، وأدى بالتالي إلى اعتماد المجتمع بشكل كبير على مصادره الناضبة في تغذية نزعته الاستهلاكية اللا متناهية

في أكثر من مناسبة، أشار عدد غير قليل من الكتاب والمفكرين إلى ظاهرة التخلف. كما طرقت هذه الظاهرة من أكثر من زاوية، منها زاوية الحرية الفردية التي تولد التفكير الخلاق، ومنها زاوية الأنظمة والقوانين التي تكفل حرية الفكر والإبداع وتشيع في المجتمع مفهوم المساواة أمام القانون من ناحية ثانية. وهاتان الزاويتان هما مدخلان ذاتيان. بمعنى أن المفكرين يبحثون في العوامل الداخلية في نسيج المجتمع وثقافته لفهم أسباب انكفائه. وهناك بالطبع النظرة الخارجية لتفسير موضوع التخلف، وهي في مجملها تنزع إما إلى نظريات المؤامرة باعتبار أن ما نحن فيه هو نتيجة حتمية لمؤامرات تحاك ضدنا بليل، أو أن وضعنا على أقل تقدير هو نتيجة ظروف خارجة عن إرادتنا وتطبخ في مطابخ الدول الكبرى. وغني عن القول، أن النزوع نحو تغليب العوامل الخارجية، مع تسليمنا بوجود عوامل خارجية تجابه أي مجتمع، هو نزوع نحو تبرير الحال وإلقاء اللوم على الآخر في محاولة لحماية الذات من مشرط النقد الهادف والعميق. وأرى أن التركيز على العوامل الداخلية وفهمها هو أجدى للمجتمعات التي تروم بالفعل الخروج من دوامة التخلف والتبعية.
واحد من العوامل الذاتية التي أرى أهمية الالتفات إليها في سعينا نحو الارتقاء وفي تطلعنا نحو الانضمام إلى العالم الأول، هو بناء ثقافة العمل أو غرس سجية حب العمل في النشء منذ نعومة أظفارهم. إن بناء ثقافة العمل تحتاج في نظري إلى تضافر ثلاثة عوامل هي: الأسرة والمجتمع، والنظام التعليمي، وبيئة العمل.
يتمثل دور الأسرة والمجتمع في خلق وتشجيع ثقافة العمل من خلال التربية داخل الأسرة التي تساعد في خلق اتجاه إيجابي لدى الفرد نحو العمل (اليدوي والفكري) بالإضافة إلى دور العلاقات الاجتماعية والقيم السائدة في المجتمع. هنا نلحظ، وكما أشار إلى ذلك العديد من الكتاب، أن ثقافة العمل التي تكونت لدينا بفعل الطفرة الاقتصادية في السبعينيات كانت سبباً في خلق مواقف سلبية تجاه العمل عامة، وتجاه العمل المهني واليدوي بشكل خاص. لقد خلقت ظروف الرخاء والرفاهية التي عاشها المجتمع إحساساً واهماً بأننا بما لدينا من مصادر نستطيع شراء كل شيء حتى البشر الذين ينوبون عنا في أعمالنا، لدرجة أصبحنا معها أسرى لمفاهيم ومواقف وقيم مضادة للعمل. والنتيجة الحتمية لهذا الواقع هو نزوع المجتمع نحو التقليل من شأن من يقوم بمثل هذه المهن في الوقت الذي نعجز فيه أو نترفع نحن عن القيام بها.
العامل الثاني الحاسم في بناء ثقافة العمل هو التعليم ومن ورائه المؤسسات التعليمية برمتها. ويشير الواقع الحالي إلى أن نظامنا التعليمي في جميع مراحله لا يساعد كثيراً في تعزيز ثقافة العمل حيث إن الجانب النظري وأساليب التعليم التقليدية المعتمدة على الحفظ والتلقين لا تسهم إلا في خلق ثقافة مضادة لمفهوم العمل. بينما تحتاج ثقافة العمل في المقابل إلى بناء روح الاستقلالية وبناء مهارات لدى المتعلم تدعم قدرته على أداء العمل بشكل جيد مثل مهارات التواصل واللغات واستخدام التقنية بشكل فاعل. بالإضافة إلى ذلك يجب أن يكون العمل جزءاً أساسياً من متطلبات الانتقال من مرحلة دراسية إلى أخرى، بمعنى أن يكون حصول الطالب أو الطالبة على شهادة عمل جزئي أثناء الدراسة أو خلال العطلة الصيفية جزءاً معتمداً لنجاحه وانتقاله من صف إلى آخر، أو على أقل تقدير من مرحلة إلى أخرى.
إن فشل مؤسستي الأسرة والتعليم في غرس ثقافة العمل أدى إلى ضعف إنتاجية المجتمع، وعلى وجه الخصوص في المجالات العلمية والتقنية، وأدى بالتالي إلى اعتماد المجتمع بشكل كبير على مصادره الناضبة (أي النفط) في تغذية نزعته الاستهلاكية اللامتناهية.
أما دور بيئة العمل، والذي يأتي لاحقاً للعاملين السابقين، فيتمثل في تكامل الأنظمة المتعلقة بالعمل بحيث تسهم في تحفيز النجاح والإتقان مادياً ومعنوياً، لتكون بيئة العمل نتيجة هذه الأنظمة بيئة جاذبة للطالب بعد تخرجه بدلاً من أن تكون بيئة محبطة وطاردة. وتكامل الأنظمة يسهم أيضاً في حفظ حقوق العامل والمؤسسة التي يعمل فيها بنفس الدرجة بحيث لا يبدأ الموظف في عمله إلا وهو مدرك لحقوقه وواجباته التي يحاسب عندما يقصر فيها ويكافأ عندما يحسن أداءها. ففي القطاع الحكومي، على سبيل المثال، تفتقر أنظمة العمل إلى لوائح التوصيف الوظيفي كما تتلاشى الحوافز المشجعة على العمل والإنتاج، وتكتفي الإدارة بمراقبة الحضور والانصراف باعتبارهما مقياس للإنتاجية. وينطبق هذا على الموظفين في أول سلم التدرج الوظيفي كما ينطبق على بقية درجاته.
في ظل ضعف ثقافة العمل، وبالتالي ضعف الإنتاج العلمي والثقافي والمادي، تنزع المجتمعات إلى الانكفاء على الذات، وإلى تبرير الإخفاق بوضع اللوم على العوامل الخارجية، وإلى البحث في أوراق التاريخ عن ماضٍ تليد وإنجازات سابقة تحمي الذات من الشعور المضني بعدم القدرة على مجاراة المجتمعات الأكثر تطوراً والأسرع نمواً.
وما لم نعمل على تشخيص الواقع بصدق وبعمق، وما لم نبدأ بمعالجة جميع العوامل الداخلية هذه، ابتداء من تعزيز الحريات، وتطوير القوانين، إلى تحفيز ثقافة العمل المهني المنتج، فإننا سنظل مهددين بالبقاء تحت رحمة التأثيرات الخارجية تتقاذفنا حيث تشاء.