الفرد لا يملك، مهما كثرت علومه ومهاراته، القيام بكل الأعمال اللازمة لصناعة شيء من الألف إلى الياء، ولو كان ببساطة معطف صوف

فكٍّر عزيزي القارئ في أبسط منتج يخطر على بالك، سواء كان قلما أو كوبا بلاستيكيا أو معطفا من الصوف.. ما هي المهارات اللازمة لصناعة هذا المنتج؟ قد تتسرع فتقول: الأمر سهل، فكل ما يلزم لمعطف الصوف مثلا هو قماش صوف ملون ومقص وبعض الخيوط والإبر، وتنتهي المسألة.. فكّر مرة أخرى يا صديقي، وتأمل هذه المرة فيما بين يديك، واستحضر سلسلة الإنتاج الطويلة والمعقدة، بدءا من المواد الأولية، مرورا بعملية النقل لكل منها، فالمنتجات الوسيطة، انتهاء بالحِرف النهائية الداخلة في استكمال المعطف، فستدرك أن معجزة اقتصادية يسرها الله لك لتنعم بأبسط المنتجات، وأن الفرد لا يملك، مهما كثرت علومه ومهاراته، القيام بكل الأعمال اللازمة لصناعة شيء من الألف إلى الياء ولو كان ببساطة معطف صوف.
كانت هذه الملاحظة الدقيقة والنافذة في عمقها مما أورده آدم سميث في كتابه (ثروة الأمم). آدم سميث هذا، هو الفيلسوف الأسكتلندي الذي عاش في القرن الثامن عشر، والذي يُجمعُ مؤرخو علم الاقتصاد في الغرب على أنه أبوالاقتصاد الحديث. حيث تكلم عن الظواهر الاقتصادية حوله من طبيعة الأسواق الحرة وعمليات الإنتاج بأسلوب منطقي مترابط، وبيّن كيف أن آليات السوق، والتنظيم الحصيف لعمليات التصنيع وتوزيع الأدوار له أبرز الأثر في زيادة دخل الدول ومضاعفة الإنتاج ورفع المستوى المادي للشعوب.
ومن أبرز الأمثلة التي تكلم عنها سميث في كتابه (ثروة الأمم)، والذي ما زال اقتصاديو الغرب يشيرون إليه في معرض الثناء والمديح، ويستشهدون به على سبقِ سميث عصرَه، هو مثال صناعة معطف الصوف. يقول سميث (ترجمتي بتصرف): معطف الصوف مثلا، مهما كان خشنا غليظا، فهو في الحقيقة ثمرة تعاون ما لا يحصى من الأيدي العاملة. بدءا من راعي الغنم، فجزاز الصوف وجامعه، فماشط الصوف، إلى الصابغ، فالناقش والمطرز، إلى الغازل، فعامل التنشِية، مرورا بالناسج إلى الحائك ومفصّل القماش، ومعهم الكثير من البشر الذين يلزم اشتراكهم وتعاضدهم في كل واحدة من هذه الخطوات السابقة. ثم اسأل نفسك، كم من التجار والحمالين كذلك كانت لهم يد في تيسير عملية نقل وإيصال كل من هؤلاء الحرفيين بعضهم ببعض، رغم ما قد يفصل بينهم من مسافات شاسعة وبحار واسعة؟ ما حجم التجارة التي تمت، والملاحة والبواخر التي سارت، ومسيرات القوافل الطويلة؟ كم من صُناعِ السفن والبحّارة وصانعي الأشرعة والحبال؟ ما هي الحرف والصناعات التي لزم حصولها واجتماعها لتوفير أدوات كالمغزلة وآلة الحياكة والتطريز وآلة جز الصوف؟ ناهيك عن الآلات الأكثر تعقيدا؟ دعونا نتفكر لبرهة في أنواع الأعمال التي اجتمعت لجعل شيء كهذا ممكنا... 
في هذا المثال المثير، يشير آدم سميث إلى أمرين مهمين، أولا أن تبادل السلع والخدمات، والتخصص في المهارات، وانشغال كل إنسان بما يُحسن هو سر العمران الحضاري وارتقاء جودة المصنوعات، فلا يستطيع إنسان أن ينعزل بمفرده وينتج حاجياته كلها مهما كانت بسيطة، وثانيا أن السوق الحر وانتقال البضائع بين الناس وبين البلدان، وسعي كل إنسان لتحقيق منفعته هو السر في تنظيم هذه (الأوركسترا) الإنتاجية.. إذ يستحيل أن يقوم إنسان بتنظيم سلسلة الإنتاج هذه بمفرده، بل ليس أفضل من آلية السوق الحرة لتربط هذه الحرف والصنائع ببعضها. وهذا ما يشير إليه الاقتصاديون اليوم بـ(اليد الخفية) للسوق.
ثم أورد سميث مثالا آخر في نفس الكتاب عن مصنع الإبرة، وكيف أنه يَدخل في صناعتها 18 عملا مختلفا، وقال إن تخصص كل عامل بواحد منها يؤدي إلى مضاعفة الإنتاج. وكان هذا المثال أساسا لمفهوم (العملية الصناعية) الحديث، والذي يقوم عليه تصميم المصانع الأوتوماتيكية اليوم.
هذه الملاحظات بلا شك تعكس رؤية اقتصادية ناضجة عند آدم سميث، ولكن هل انفرد وحده بالسَّبق في ملاحظة هذه الظواهر؟
أترككم مع هذا النص للإمام أبي حامد الغزالي، والذي ورد في كتابه الشهير (إحياء علوم الدين):
لننظر إلى ما يحتاج إليه الرغيف الواحد حتى يستدير ويصلح للأكل من بعد إلقاء البذر في الأرض، فأول ما يحتاج إليه الحارث ليزرع ويصلح الأرض، ثم الثور الذي يثير الأرض والفدان وجميع أسبابه، ثم بعد ذلك التعهد بسقي الماء مدة، ثم تنقية الأرض من الحشيش، ثم الحصاد، ثم الفرك والتنقية، ثم الطحن، ثم العجين، ثم الخبز، فتأمل عدد هذه الأفعال التي ذكرناها وما لم نذكره، وعدد الأشخاص القائمين بها، وعدد الآلات التي يحتاج إليها من الحديد والخشب والحجر وغيره، وانظر إلى أعمال الصناع في إصلاح آلات الحراثة والطحن والخبز من نجار، وحداد وغيرهما! وانظر إلى حاجة الحداد إلى الحديد والرصاص والنحاس… -إلى أن قال- فإن فتشت علمت أن رغيفا واحدا لا يستدير بحيث يصلح لأكلك يا مسكين ما لم يعمل عليه أكثر من ألف صانع.
وبعد هذا المثال المذهل، يقول الغزالي: حتى إن الإبرة التي هي آلة صغيرة فائدتها خياطة اللباس الذي يمنع البرد عنك لا تكمل صورتها من حديدة تصلح للإبرة إلا بعد أن تمر على الإبري خمسا وعشرين مرة، ويتعاطى في كل مرة منها عملا.
فإذا علمنا أن الغزالي عاش قبل آدم سميث بحوالي 600 سنة، حُقّ لنا أن نتساءل عن مدى (توارد الخواطر) العجيب بينهما، وكيف اتفقا على أمثلة متشابهة، بل متطابقة كما في مثال صناعة الإبرة! ولا يسعنا سوى أن نقول رحم الله العالم الموسوعي الجليل أبا حامد الغزالي، وقليلا من الإنصاف يا مفكري الشرق والغرب.