قرار الفيصل جاء في الوقت المناسب، وله أبعاد عديدة تستحق الوقوف عندها، من أهمها أنه سيساهم في حل مشكلة رقابية يعاني منها كثير من الجهات الحكومية، والمتمثلة في ضعف الإشراف على فروع الوزارات

جاء في البيان الصادر عن إمارة منطقة مكة المكرمة والمنشور في هذه الصحيفة أن الأمير خالد الفيصل وجه بتشكيل لجنة دائمة من الجهات المختصة لمكافحة الفساد الإداري بالمنطقة للعمل على دعم ما من شأنه مكافحة الفساد الإداري وفقا للأنظمة والتعليمات ذات العلاقة.
وأوضح البيان أن تشكيل اللجنة يأتي استشعارا لمبدأ الشفافية والوضوح والتعاون لما يخدم مواطني ومقيمي المنطقة ودعما لمسيرة الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي وتحقيق الانضباط المالي والإداري في جميع مؤسسات الدولة ومرافقها وتمشيا مع توجيهات المقام السامي الكريم لمكافحة الفساد الإداري.
وفي الحقيقة أن هذا القرار جاء في الوقت المناسب، وله أبعاد عديدة تستحق الوقوف عندها، من أهمها أن هذا القرار سيساهم في حل مشكلة رقابية يعاني منها كثير من الجهات الحكومية، والمتمثلة في ضعف الإشراف على فروع الوزارات في مختلف المناطق من قبل المراكز الرئيسية، وسبب هذا الضعف يعود إلى عوامل عديدة نذكر منها:
1) ضعف أنظمة الرقابة الداخلية بشكل عام، وعدم تفعيل إدارات المراجعة الداخلية.
2) عدم وجود خطط استراتيجية وخطط تفصيلية لكثير من الجهات الحكومية، وإن وجدت تكاد تكون شكلية، وبالتالي أهدافها غير واضحة أو غير موجودة، ووضع الأهداف شرط مسبق لتقويم المخاطر، وهذه العملية أكاد أجزم أنها غير موجودة في أغلب الجهات الحكومية.
3) وجود إشكاليات في الخرائط التنظيمية الإدارية والضعف الواضح والعشوائي في تصميمها.
4) عدم وضوح الصلاحيات والمسؤوليات وعدم وجود أدلة تنظيمية وأدلة إجراءات.
5) غموض مفهوم الإشراف الفني والإداري وعدم التفرقة بينهما، ومن ذلك على سبيل المثال مديريات بعض المناطق نجد أن المدير العام هو المسؤول الأول فيها، ومع ذلك نجد أن هذه المسؤولية غير واضحة وبالتالي يكون الإشراف الإداري ضعيفاً على الإدارات المرتبطة به تنظيمياً، وذلك لخضوعها فنياً للإدارات العامة في المراكز الرئيسية في الوزارات، لذلك نجد كثيرا من التعاميم والتعليمات المتضاربة والمتناقضة فنياً وإدارياً سواء الصادرة من المدير العام في المديرية أو الإدارات العامة في المراكز الرئيسية، وفي كثير من الأحيان نجد أن بعض الإدارات في المديرية لا تلقي بالاً لتعليمات مديرها العام!.
وتأسيساً على ما تقدم، فإن هناك من يستغل هذا الضعف وهذه الثغرات على نحو غير مشروع وغير أخلاقي بهدف تحقيق منافع شخصية فردية أو جماعية نتيجةً لذلك، مما يؤدي إلى التأثير على أداء الجهات الحكومية وقدرتها على القيام بدورها ومهامها، فضلاً عن انتشار الفساد مثل انتشار الرشوة واختلاس الأموال العامة، ومحاباة الأقارب والأصدقاء، واستغلال المناصب، وإساءة تفسير النصوص النظامية لخدمة أغراض خاصة، واحتكار السلطة.
وأذكر في هذا الصدد أن بعض الدراسات والأبحاث العلمية التي أجريت لتحليل مشكلة الفساد الإداري تشير إلى وجود نوعين من الفساد في الوظيفة الحكومية، نوع يتعلق بصغار الموظفين والمتمثل في تسريع الإجراءات بشكل مخالف أوعدم القيام بها، والنوع الآخر يتعلق بكبار الموظفين والذي يتصل بعملية صنع القرار في الجهة الحكومية، حيث يتكتل ممارسو الفساد على شكل مجموعات متضامنة داخل الهرم التنظيمي قد تشمل المستويات الإدارية العليا بحيث يغطي كل عضو في هذه الجماعة على مخالفات وتجاوزات زملائه، وهذه ظاهرة تلفت الانتباه بوجود نوع من الالتزام الأخلاقي السلبي والتعاون على تحقيق الجريمة الإدارية، وهذا ما يعرف في المفهوم الرقابي بما يسمى التواطؤ المحكم، والذي تعجز أمامه جميع الأجهزة الرقابية بجميع أشكالها.
وعليه فإن قرار الفيصل بتشكيل لجنة لمكافحة الفساد المالي والإداري يعد قراراً استراتيجياً يحد كثيراً من مخاطر ضعف الإشراف الحكومي وتبعاته، ويعد أيضاً عوناً للوزارات في إحكام رقابتها على فروعها، ومساعداً قوياً للأجهزة الرقابية مثل ديوان المراقبة العامة وهيئة الرقابة والتحقيق ووزارة المالية، كما يعطي أيضاً صورة واضحة لإمارات المناطق بخصوص أعمال فروع الوزارات الحكومية لديها في ظل غياب التقارير الرقابية عنها، بالإضافة إلى تفعيل الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد. هذه من ناحية.
ومن ناحية أخرى يعتبر هذا القرار داعماً قوياً للمملكة في إمكانية حصولها على مراتب متقدمة مستقبلاً في تصنيف منظمة الشفافية الدولية في مؤشر مدركات الفساد، والتي من أبرز معاييرها تعزيز الرقابة والحد من الفساد.
وبالفعل جاء هذا القرار متمشياً ومتكاملاً مع التوجيهات والقرارات الإصلاحية لخادم الحرمين الشريفين حفظه الله، والتي تؤكد على مواصلة الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والمؤسسي وتطوير الأنظمة ذات العلاقة برفع الكفاية وتحسين الأداء والعمل على ترسيخ مبدأ الشفافية والمساءلة ومحاربة الفساد المالي والإداري. ومن هذه القرارات على سبيل المثال ما يلي:
• قرار مجلس الوزراء رقم (235) وتاريخ 20/8/1425هـ القاضي (بقيام ديوان المراقبة العامة بتطوير النظام المحاسبي والمراجعة ومعاييرها المهنية، والتنسيق في ذلك مع وزارة المالية والهيئات المهنية المتخصصة لتمكين أجهزة الدولة من الحصول على البيانات المالية الدقيقة والمعلومات الموثقة عن أقيام أصول المرافق العامة وممتلكاتها....).
• قرار مجلس الوزراء رقم (129) وتاريخ 6/4/1428هـ، والمتضمن الموافقة على اللائحة الموحدة لوحدات المراجعة الداخلية في الأجهزة الحكومية والمؤسسات العامة.
لذا فإن قرار تطوير النظام المحاسبي الحكومي وقرار إنشاء وحدات المراجعة الداخلية، وقرار تشكيل لجنة مكافحة الفساد، تشكل نقلة نوعية في مسيرة الإصلاح الإداري، ونقطة إيجابية تسجل للمملكة عالمياً، وتحتاج من جميع فئات المجتمع المشاركة في تطبيق وتفعيل هذه القرارات على أرض الواقع. وفي النهاية أقول شكراً يا خادم الحرمين ، وشكراً يا سمو الأمير.