الأمن المائي العربي الآن في وضع لا يحسد عليه، مما يلقي بأعباء إضافية على المعنيين بهذا الشأن من المسؤولين العرب
صراعات حادة ومشاحنات، شهدتها المنطقة العربية، في الخمسين سنة المنصرمة، دارت حول محاولات القوى الخارجية نهب المياه العربية. لعل الأقدم بين هذه الصراعات، حرب السويس عام 1956، والتي تعرف بالعدوان الثلاثي على مصر.
وقد شُنّت هذه الحرب من قِبل بريطانيا وفرنسا والكيان الصهيوني، ردا على قرار مصر بتأميم قناة السويس، الممر المائي الدولي.
وكان التأميم في حد ذاته ردا على رفض الولايات المتحدة الأميركية وصندوق النقد الدولي، تمويل مشروع سد أسوان، الذي كان الهدف منه تخزين المياه، ومنع تكرار فيضان نهر النيل، واستخدام تدفق المياه السريع نحو السد لتوليد طاقة كهرومائية، وتوفير حاجة مصر من الطاقة.
ثم توالى الصراع على الثروة المائية، حين بدأ الكيان الصهيوني في مطالع الستينات من القرن المنصرم، تنفيذ مشروع ضخم لتحويل مياه نهر الأردن إلى صحراء النقب. وكانت هذه الخطوة سببا رئيسيا في اجتماع القادة العرب، في أول مؤتمر قمة لهم بعد نكبة فلسطين. وتمخض عن هذا المؤتمر عدة قرارات هامة، لعل الأبرز بينها توقيع القادة العرب على معاهدة دفاع عربي مشترك، وتأسيس قوة عسكرية عربية موحدة لمنع إسرائيل، من تحويل مياه النهر.
كما شهد المؤتمر قرار تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية التي تولى رئاستها في مرحلة التأسيس المرحوم أحمد الشقيري، ومعها قرار آخر بتأسيس جيش التحرير الفلسطيني.
في منتصف السبعينات، نشبت أزمة بين تركيا وسورية والعراق حول تقاسم مياه نهر الفرات. وتصاعدت هذه الأزمة في التسعينات من القرن الماضي، إثر قيام الحكومة التركية ببناء سد أتاتورك، والإفصاح التركي عن مشروع أنابيب السلام.
واليوم تعاني مصر والسودان تهديدا حقيقيا لثروتهما المائية، جراء بناء سد النهضة الإثيوبي، ما لم يتم التوافق بين الحكومات الثلاث على صيغة عملية، تحفظ لجميع المستفيدين من نهر النيل حقوقهم في هذه الثروة.
ومنذ بداية القرن الماضي، شهدت العلاقات العراقية الإيرانية، صراعات ومنازعات تمركزت حول أحقية الملكية والمرور الحر في شط العرب، كان آخرها حرب الخليج الأولى، التي استغرقت 8 سنوات ذهب ضحيتها أكثر من مليون شخص بين قتيل وجريح.
وفي مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، والذي عقد في بداية التسعينات من القرن الماضي، كان للماء نصيب وافر في المفاوضات المضنية بين العرب وإسرائيل، من أجل التوصل إلى تسوية سلمية للصراع بين العرب والصهاينة.
واقع الحال، إن أي تهديد للثروة المائية العربية لن يكون تأثيره محدودا ومقتصرا على شح وجود الماء، بل سيتعداه إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.
فمنذ القدم أرجع كثير من المؤرخين أهمية هذه المنطقة والدور الذي لعبته، منذ بداية التاريخ، لوجود وادي النيل، الذي تشكل هضبة البحيرات الاستوائية، وهضبة الحبشة الخزان الطبيعي له، ويمر بالسودان ومصر، حيث يمنحهما الزرع والحياة.
وإلى وجود نهر دجلة الذي ينبع من مرتفعات جنوب شرق تركيا، ونهر الفرات الذي ينبع من هضبة الأناضول في تركيا. كما توجد أنهر أخرى، أقل شأنها، كنهري الليطاني والأردن. ويبلغ عدد الأنهار الصغرى، الدائمة الجريان في الوطن العربي، 40 نهرا، فضلا عن الآلاف من الأودية الموسمية التي تجري فيها المياه فترات محدودة في السنة.
وتتجدد إمدادات المياه العذبة، بفعل دورة المياه في الطبيعة، بحيث يقدر جريان المياه، في القارات بنحو 38360 كيلومترا مكعبا سنويا، يعود منها إلى البحار والمحيطات 25262 سنويا، على شكل مصاب أنهار وتدفقات سيول. ويوجد ما يقدر بـ4678 كيلومترا مكعبا، وتكفي هذه النسبة نظريا، لعدد من السكان يصل إلى نحو 20 مليار نسمة.
وقد نتج عن وعي أهمية الثروة المائية، في تحقيق التنمية الاقتصادية، ولطبيعة الصراع الدائر من أجل السيطرة عليها، ما يمكن أن يطلق عليه بمشكلة الأمن المائي.
ومن المؤكد، أن مصدر هذه المشكلة هو ما يحمله واقعها في معطياته الحاضرة والمستقبلية من تأثيرات مباشرة على الوجود العربي، شعوبا وكيانات. ذلك أن نقص المياه العذبة يعد من معوقات التنمية المستديمة في الوطن العربي، وأن الاستخدام الأمثل لهذا المورد، هو أحد المفاتيح الرئيسية لتحسين الإنتاج الزراعي، وتحقيق الأمن الغذائي العربي.
إن حالة الضعف العربي، تضاعف من مخاطر استمرار السياسات الإقليمية، في نهب الثروة المائية العربية، كما هو الحال مع مياه نهري دجلة والفرات.
ويستغل الكيان الصهيوني ظروف احتلاله للضفة الغربية وقطاع غزة، فيقوم بتحويل الثروة المائية في الأراضي المحتلة،لاستخداماته واستخدام المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة.
كما استغلت إسرائيل هجومها الواسع على لبنان عام 1978، واحتلت فيها جزءا من الجنوب والبقاع الغربي، حتى نهر الليطاني. ومنذ احتلالها هضبة الجولان السورية، بدأت سرقة ما يقدر بـ50 - 60 مليون متر مكعب من المياه سنويا، من هذه الهضبة.
وتعكس جميع هذه المعطيات حالة الضعف، في الوضع العربي الراهن.
كما تشير إلى أن الأمن المائي العربي الآن في وضع لا يحسد عليه، مما يلقي بأعباء إضافية على المعنيين بهذا الشأن من المسؤولين العرب. إن كثيرا من الأقطار العربية لا تستطيع بمفردها، نتيجة ضعف مواردها وإمكاناتها الاقتصادية، الاضطلاع بحماية أمنها المائي، إلا ضمن منظور إستراتيجي عربي شامل، يأخذ بعين الاعتبار حق الجميع، ومصلحة الكل.
وما لم يتحقق ذلك، فليس من المستبعد أن يكون الصراع على الماء هو أحد مسببات حروب المستقبل.