من يبدع في هذه الحياة وينتج شيئا تبرز به مبادئه وأيديولوجياته لا يحتاج للماضي كثيرا، فالماضي بالنسبة له مكمل للحاضر وليس العكس، بخلاف من فشل في حاضره، فإنه يبحث في ماضيه عما ينقذه من هذا الفشل
من علامات الفشل الحضاري أن تعتز بماضيك أكثر من اعتزازك بحاضرك، وأن تثور على من ينال منه أكثر من ثورتك على من ينال من حاضرك.
بل إن من أبدع في هذه الحياة وأنتج شيئا يعرف به وتبرز به مبادئه وأيديولوجياته لا يحتاج للماضي كثيرا، فالماضي بالنسبة له مكمل للحاضر وليس العكس، بخلاف من فشل في حاضره، فإنه يبحث في ماضيه عما ينقذه من هذا الفشل، ككبير السن الذي يفخر بماضيه لأنه لا يوجد ما يقدمه الآن، لكن الكبير معذور لأنه عاجز جسديا، وهذه فطرة الله في البشر، أما الأمم والشعوب فلا ينقطع عطاؤها، وإنما بطبيعتها أن تبقى ولادة إلا إذا تخدرت، فازدهار الحاضر يتضمن في طياته ازدهار الماضي بالتماس العذر للماضي، والبحث عن مبررات فشل الشعوب التي عاشته، أما مع استمرار الفشل ووجود فشل في الماضي، فإن هذا سيجعل الفشل متأصلا فيهم كطبيعة لدى هؤلاء ولا ينفك عنهم.
فالولايات المتحدة الأميركية وأستراليا لا يوجد لهما ماض، أو يوجد ولكنه غير معروف، ومع ذلك التمس الناس العذر لهما، بكونهما قارتين معزولتين، ولكن لو استمر تخلفهما إلى الآن فلن يستمر الناس بالتبرير بانعزالهما، وإنما سيجعل الفشل صفة متأصلة فيهما، والعكس صحيح، فنجاح الماضي مع فشل الحاضر يؤدي إلى عدم الإشادة بنجاح الماضي، أي أن فشل الحاضر يؤدي إلى تشويه نجاح الماضي أيضا.
والمسلمون الآن حينما فشلوا في إنتاج حضارة معاصرة، أثّر هذا على حضارتهم الماضية، فبدأ تسبيبها بأنها آتية من حضارة الإغريق، وبسبب حركة الترجمة فهي -وإن كانت أسبابا مهمة- إلا أنها تذكر على سبيل التعريض بهم، وأن المسلمين لا يمكنهم إنتاج حضارة خالصة، وما ذاك إلا لأن فشلهم الحالي قد تسبب في إفشال الماضي.
لذا، فعلى أولئك الذي يثورون إذا مس أحدهم ماضيهم -سواء أكان هذا حقا أم باطلا- عليهم أن ينقذوا ماضيهم بحاضرهم، لأن العالم لن يغير صورته لماضيك طالما أن صورة الحاضر لديك مشوهة، بل ولن تنفعك بشيء، وستعود بالوبال عليك، حتى ولو كان في ماضيك حضارات مزدهرة، لأنه سينطبق عليها المثل العامي النار ما تعقب إلا رماد.