المتأمل في نماذج الوعظ لبعض الدعاة يستشعر السطحية والسذاجة التي لا تخدم ديناً ولا دعوة، وإنما تكرس روح الخرافة المبنية على التوجه المغذي للوضاعين وصانعي الأساطير

 شهدت إحدى صلوات الجمع من الشهر الجاري في أحد مساجد نيويورك، كان الحضور كثيفا جداً من مختلف الأجناس والألوان حتى فاض المسجد بمن فيه ووقف الناس بالخارج، وأُخبرت أن الصفوف تمتد إلى الشارع بعض الأحايين. تقدم الخطيب الشاب مستهلاً حديثه بمقدمة عربية، حمد الله وأثنى عليه، ثم تناول خطبته الإنجليزية بالحديث عن الإيمانيات وتعدد مخلوقات الله العظيمة، مستذكراً أن كل هذه المخلوقات سخرها الله لك أيها الإنسان. إلى هنا والحديث في حدود المسلمات العقلية والنقلية. غير أن مسار الحديث بدأ يأخذ منحى آخر من حيث سرد الروايات الواهية التي فيها اعتداء على دين الإسلام قبل أن تكون فيها مخالفة للعقل والفكر الواعي الدقيق.
تحدث الخطيب عن قصة رجل تائه مع أصحابه ألقت بهم السفينة في غابة، وفي هذه الأثناء أقبل أسد يتمطى، فعرّفه الرجل بنفسه فطأطأ الأسد رأسه خوفاً وهيبة، وبدلاً من أن يلتهمه الضرغام الجائع، تحول ملك الغابة إلى حمل وديع يبادر في خدمة الرجل ورفاقه لدلالتهم على الطريق الصحيح، ثم همهم الأسد الوديع وضرب الرجل بذنبه! قال الرجل واصفاً الضربة: فرأيت أنه يودعني!
ثم أخذ الخطيب في استطراد قصص الكرامات في الخطبتين والتي امتدت لـ 27 دقيقة. ومما ذكره؛ قصة رجل آخر سمع صوتاً في سحابة يقول اسق حديقة فلان، فمال السحاب وأفرغ ماءه في حديقة ما، قال فتتبع الرجل الماء حتى وجد فيها فلاحا بمسحاته، فقال يا عبدالله ما اسمك؟ فإذا هو نفس الاسم الذي سمعه في السحابة!
القصة الأولى تروى لصحابي اسمه سفينة عليه الرضوان، غير أن مصادر الرواية تذكرها عن سفينة عن النبي عليه الصلاة والسلام، فلا نعلم ما هي علاقة النبي الكريم بهذا الأثر؟ وهو دليل جلي على أن الرواية والتي تليها ضرب من الخرافات حتى وإن رواها مسلم في كتابه، فقد أُخذ على مسلم بعض رواياته وهذه منها.
بعد الخطبتين والصلاة، انتظرت الخطيب وألقيت عليه التحية والتعارف، ثم بينت له أهمية الابتعاد عن مثل هذه الروايات التي هي أقرب إلى الخيال منها إلى الدعوة السليمة، خاصة وأنتم هنا في بلد لا يقبل أفراده من الحديث إلا الواقع، وما هو في حدود المنطق. وأردفت؛ بالتأكيد فإن خطبتك يتتبعها الكثير سواء من الجهات الرسمية أو الفكرية المعادية لديننا، ثم إن المصلين الحضور هنا ينطلقون بما قلته في الخطبة إلى الآخرين، وعند سردها لغيرهم يترتب عليه وضع دين الله في موضع تندر وتهكم من خلال تلك الروايات. وطلبت منه التثبت من نقل مثل هذه الروايات. حقيقة، كان الرجل خلوقاً واستمع لما قلته دون مقاطعة، وأجابني لما طلبته بالقبول.
من بداية الخطبة وأنا أشتم منها نفَس الجماعة التبليغية، وأكد لي ذلك أسلوب الخطيب أثناء نقاشه بعد الصلاة. هذه الجماعة الدعوية. ما يهمنا هنا هو أن الجماعة، وفقهم الله، يستميتون في سرد القصص الوعظية دون النظر في صحتها. وهم أيضاً لا يهتمون بالجانب العلمي في منهجهم البتة. الطريف، أنني ذات مرة ذكرت لأحدهم ضعف الروايات التي سردها على المصلين في بيانه الوعظي فأجابني: الضعف فينا نحن وليس في الروايات!
إن الآثار السلبية التي تترتب على الاستدلال بالروايات الضعيفة والموضوعة عديدة جداً، ومنها الكارثية. من ذلك، التسبب في الصد عن سبيل الله، وإغلاق باب الهداية أمام غير المسلمين بسبب الصورة السلبية، وربما التهكمية، التي تعْلق بأذهانهم جراء تلك الروايات الواهية التي يمجها العقل السليم. ومن الآثار السلبية أيضاً، غرس التطرف والتعصب في نفوس المتلقين دفاعاً عن تلك الروايات التي يرون صحتها لكون واعظهم ألقاها على مسامعهم.
المتأمل في نماذج الوعظ لبعض الدعاة يستشعر السطحية والسذاجة التي لا تخدم ديناً ولا دعوة، وإنما تكرس روح الخرافة المبنية على التوجه المغذي للوضاعين وصانعي الأساطير لترويج المعلومات القائمة على الوهم وضروب الخيال والمحالات العقلية.