يقرر هوتيلنج أن سعر السلعة الناضبة لا بد أن يستمر في الارتفاع مع الوقت كلما استهلكنا كمية أكبر منها، ولتعويض المنتج عن حقيقة أن البرميل الذي ينتجه اليوم لن يكون متوفرا في المستقبل

الحديث عن أسعار النفط متشعب ويهيمن على دوائر الاقتصاديين وصناع القرار حول العالم. فأسواق النفط العالمية لا تتوقف لحظة، وأسعارها تعتمد على العرض والطلب المباشر وخطوط الإمداد ومستويات المخزون والعوامل السياسية، إلخ.. مما يعقد الصورة على أي مراقب لسوق هذه السلعة النفيسة. لكن لا بأس من الحديث عن تأصيل لمسار الأسعار بصفة عامة، مع الإشارة إلى أن هذا التأصيل عام ولا يتعلق بدولة أو منطقة بعينها.
أبرز ما يميز النفط كسلعة اقتصادية هو كونه موردا ناضبا، لذا فقد انفرد به فرع مستقل في الاقتصاد، يُعنى بالموارد الناضبة، وله نظرياته المستقلة ومختصوه. هذه الحقيقة قد تبدو بديهية، لكن يغفل عنها كثير من المحللين والكتاب، مما يوقعهم في استنتاجات خاطئة.
في ثلاثينات القرن الماضي، وضع الاقتصادي هارولد هوتيلنج قاعدة للاستغلال الأمثل للموارد الناضبة عبر الزمن، نتيجتها أن سعر السلعة الناضبة، كالنفط مثلا، لا بد أن يستمر في الارتفاع مع الوقت كلما استهلكنا كمية أكبر منه، وذلك لأن تكلفة استنزاف مورد ناضب، مهما كانت كميته، لا بد أن ترتفع كلما قلت الكمية في الأرض، حيث سيضطر المستخرج إلى التعمق أكثر، وأن يشد الرحال إلى أماكن نائية أو إلى أعماق المحيطات للحصول على ما تبقى من المورد. لكن هناك سبب آخر لهذا الارتفاع، يتجاوز حسابات التكلفة المباشرة، حيث تنص النظرية على أن السعر لا بد أن يستمر في الارتفاع أيضا لتعويض المنتج عن حقيقة أن البرميل الذي ينتجه اليوم، لن يكون متوفرا في المستقبل، حتى وإن كانت حاجة الأجيال القادمة له أشد، وهذا ما يعرف بقيمة الفرصة البديلة للمجتمع، وهو مفهوم يحوم حول تفاصيله الكثير من الخلاف، فهل يُكتفى مثلا بسعر الفائدة الدارجة لحساب الفرصة البديلة؟ وكيف نقيم مدى خسارة الأجيال القادمة إن استنزفنا كل المورد اليوم؟ وهل سيكون عالمهم كعالمنا حتى يكون القياس صحيحا؟ المهم أن النظرية تنص على أن سعر المورد الناضب يجب أن يستمر في الصعود حثيثا مع الوقت، وأن السعر الأمثل لا يكفي أن يغطي تكاليف الإنتاج المباشرة، كما هو الحال في السلع غير الناضبة، بل لا بد أن يكون للنضوب وحق الأجيال نصيب في السعر.
هذا ما تقوله النظرية على الورق، فهل لها تصديق على أرض الواقع؟ إذا نظرنا إلى النفط كمثال لسلعة ناضبة، فإن أسعاره عبر التاريخ لا يبدو بأنها تتبع مسارا تصاعديا (بشكل أسّي) دائما، بل هي أقرب إلى سلسلة من قمم جبال وقيعان أودية، بين صعود وهبوط دون مسار سائد. فهل نستنتج من هذا أن قاعدة هوتيلنج خاطئة؟
في الواقع، هذا الحكم على هوتيلنج وقاعدته متسرع بعض الشيء، فالقاعدة تتكلم عن الأصل في كل السلع الناضبة، وما ينبغي أن تكون عليه الأمور إذا افترضنا ثبات العوامل الأخرى، وهذا افتراض جريء. أما عن مسار الأسعار كما نراه في الحقيقة على المدى المتوسط فإنه خاضع لتنازع مجموعتين متضادتين من القوى، الأولى هي القوى التي ترفع الأسعار، من زيادة تكلفة الإنتاج مع استنزاف مكامن النفط السهلة، والتوجه إلى مواقع أكثر صعوبة كأعماق البحار، أو القوى التي ترفع الطلب العالمي نتيجة لزيادة عدد السكان مثلا، أو انتقال الأمم من طور الزراعة إلى طور التصنيع. أما مجموعة القوى المعاكسة التي تجر الأسعار إلى الأسفل فتتلخص في الاكتشافات الجديدة وزيادة الكميات الممكن استخراجها، أو التقدم التقني في مجال إنتاج النفط إجمالا، مثل تقنيات الحفر الأفقية، خافضة بذلك تكاليف الاستخراج، أو التطور التقني الذي يقلل الاعتماد المباشر على السلعة الناضبة، كانتشار السيارات الأكثر كفاءة وأقل استهلاكا للوقود، أو تغير أنماط الاقتصاد والطلب على المورد الناضب وتوفر البدائل.
تفاعل هاتين المجموعتين من القوى له الأثر الأبرز في مسار الأسعار على المدى المتوسط. أما عن تعويض المنتجين عن حق الأجيال القادمة، فلا يبدو أن له أثرا كبيرا في أسعار اليوم، إما لصعوبة تقدير هذا التعويض كما سبق، أو لأن تاريخ نضوب النفط بعيد في تقديرات البعض، مما يقلل قيمة هذا التعويض.
لكن يظل الأصل النظري في نهاية المطاف بالنسبة للموارد الناضبة، هو كما يقرر هوتيلنج، من أنه لا بد أن يأتي يوم تقل فيه الكميات المستخرجة وترتفع التكلفة إلى حد يجعل من الاستمرار في استعمالها أمرا غير منطقي اقتصاديا. إذاً نحن بصدد منحنى أسعار (افتراضي) يرتفع تدريجيا طوال مرحلة استغلال المورد الناضب، وتتخلله فترات من الانخفاض المؤقت نتيجة العوامل سالفة الذكر، على أن ترتفع الأسعار بعد ذلك على المدى الطويل، طالما استمر العالم في الاستهلاك المتنامي للمورد. ويستمر هذا الارتفاع إلى أن تزيد تكلفة المورد الناضب عن تكلفة البديل، عندها يتبنى العالم المصدر البديل والأجدى اقتصاديا، حتى وإن بقيت كميات كبيرة من المورد الناضب في مكامنها دون استخراج، وهذا ما يسمى بالنضوب الاقتصادي للمورد، تمييزا له عن النضوب الفعلي.