في حين أن ضحايا الحوادث المرورية لعام واحد تماثل آلاف القتلى في حرب أهلية لسنوات، وهذه ليست مزحة، تصمد لوحتان في طريقك الوظيفي كل يوم؛ تشير الأولى إلى الزحام ومنتصف المدينة، بينما تشير الأخرى إلى المطار، وتلمع في زُرقتها بطاقة صعود الطائرة.
وفي حين تذاع حصيلة واحد من الأيام المريرة، وتسمي وكالة أنباء دولية الضحايا والمغدورين والشهداء بالقتلى، فإن هذا لن يقلق المرح الصباحي، ولن تستاء منه محطات البلاد، وهي تتابع باهتمام ومثابرة كيف وشم نيمار ذراعه بعد هدفه الخرافي، وضربة الجزاء، في ذهب الأولمبياد. في الواقع أن نيمار بوجهه الحنطي ونحوله الرشيق يشبه شبابنا، من الضفتين.
وفي حين تقرأ طاغور وهو يردد باستياء وحكمة: هل يوجد غبار في عيونكم؟ إذًا من الأفضل عدم فركها. هل جرحكم أحد بكلامه؟ إذًا من الأفضل عدم الإجابة، ثم انهال على غاندي بالعتاب، وفي حين تقرأ حكمة صينية قبل أن تقول شيئا فكّر مرتين، ثم لا تقل شيئا ستفكر في ثقافتي هذين البلدين، الهند والصين، ومع أن شعبيهما يتجاوزان المليارين والنصف مليار، وعلى الرغم من هذه الكثرة المفرطة، إلا أنه يندر أن تجد أحدا منهم وقد انخرط في قتالنا الشائع في الشرق القليل، إذ يتحدث رجال ملتحون بمنتهى الخداع عن المحبة والرحمة للعالمين، والسكاكين خلف ظهورهم.
وبينما ينهمك الشعراء والروائيون والفنانون في عزلاتهم القسرية، فإن مديري المكاتب الفخمة سيستمرون في السخرية منهم، أما المارة فقد تعلموا بشكل تلقائي، ومنذ عقود، قذفهم بالحجارة.
المرحوم ممدوح عدوان قال مرة، إن الإنسان الذي غرست أنظمة القمع خوفا عريقا في نفسه، يشجع كل من حوله للتطاول عليه، كما أنه يعرف هو نفسه كيف يستغل الفرصة للتطاول على الآخرين، حين يرى تلك الفرصة سانحة، ولهذا، فإن الطغيان يريد غرس هذه الرهبة الدائمة، كي يضمن استقراره.
على كل حال، هذا زمن معتوه حقا، إن شخصا يخطف حافلة، ثم يقودها باتجاه أحد الشواطئ في مدينة فرنسية، ويدهس بها خمسة وثمانين إنسانا، ليس غريبا على الإطلاق أن يكون هو نفسه قد غازل فتاة من بلاده، لم تتمكن من الهجرة، وبكلمات متقدمة الأحلام، ربما بعث لها قصيدة الماغوط الحزينة ستجدونني هناك، في المكتبات العامة، نائما على خرائط أوروبا، نوم اليتيم على الرصيف، حيث فمي يلامس أكثر من نهر، ودموعي تسيل من قارة إلى قارة.