ربما كان ذلك القروي المتقادم إلى مشارف التسعين آخر من يروي في محيطي ذاكرة الحج مشياً على الأقدام إلى بيت الله المحرم. ذاكرة قرى جبال الحجاز التي يقول الحق، وقوله الحق ( قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ). ذاكرة الوداع المبكي لعصبة الحجيج ليلة هلال ذي القعدة. ذاكرة مئات القرى في الطريق إلى بيت الله: قرية تبيت فيها على الجوع والطوى وأخرى بعدها تهديك كسرة من الخبز البارد. ذاكرة الميقات حيث ملابس الإحرام بقيمة شاتين باعهما قبل تسعة أشهر من أجل هذه اللحظة التاريخية ومن أجل حلم هذا الرداء الأبيض. ذاكرة منظر الكعبة المشرفة حين يبلغ به الشوق واللهفة أن يسرق النظر إليها من أبواب وشقوق الرواق المكي فلا ترمش له عين حتى وهو يعلم أنها على بعد مئة خطوة وهو الذي قطع من قبل ملايين الخطوات إلى هذا المنظر. ذاكرة البكاء بعيد السلام على الحجر الأسود من عيون تعلمت من قبل عيب البكاء ونقضه للرجولة. ذاكرة منى التي دفنوا فيها رفيق الرحلة وكبير الجماعة صبح الرحيل إلى عرفات بعد أن حملوه شبه جثة تقاوم الأنفاس منذ صبح الحمى في – يلملم – فكأنه يقاتل اللحظة الأخيرة من الحياة ويأبى إلا أن تكون في عرفة ولكنها تباعدت وأبت في آخر ألف خطوة. ذاكرة سرقة الطعام من مخيم الحكومة في عرفات بعيد حيلة ماكرة على حرس الطعام حين تغلبت ذاكرة الجوع على ذكر التقوى. ذاكرة الشبع حد الإفراط والمغالاة والتخمة ظهر يوم النحر الأكبر وهو الذي لم يملأ جوفه في كل ما قبل من الحياة بوجبة من لحم خالص. ذاكرة الإصبع الصغيرة المقطوعة من يده حين وضعها في عجلة السيارة من يوم النفرة، بلاهة وسذاجة وهو الذي لم يشاهد من قبل سيارة إلا في مكة المكرمة. ذاكرة ذات الإحرام الذي احتفظ به لا ليحرم به من جديد في عام قادم بل ليخيطه بيديه ثوباً فما كان لقيمة شاتين أن تذهب سدى على قارعة طريق للحج. ذاكرة رحلة العودة التي كان يتباطأ فيها كلما وجد في قرية فرصة عمل ليبني فرضة أو – يصرم – حقلاً أو – يخلب – مدماكاً أو يخيط ثوباً في صبح عروس قروية. ذاكرة قريته وهو يعود إليها من – كوة – الجبل ثم يستقبلونه ولكن للمفاجأة بلا زغاريد: تفحص كل الوجوه ولكنه لم يشاهد بينها وجه ابنه. رأى دموع زوجته وهي تنظر للمقبرة. كان ينتحب ويئن بصدر كالمرجل ولكن بلا دموع. لم تكن القرية يومها تسمح للرجل أن يدمع.