أكون في أسوأ أحوالي عندما أغادر السعودية، لذا كان من السيئ أن أجد نفسي في محيط كاميرا جوال شاب عشريني في الطائرة لأشير له أنه تصرف بشكل غير مقبول، لكنه لم يرد، وردت امرأة بجواره وهي تشير بأصابع نحيفة وطويلة قائلة اشفيك أنتي مشتطة!
في الواقع أن كلمة مشتطة غريبة قليلا على قاموسي بما أني تربية جدة، لكنها لم تشغلني بقدر أصابع هذه المرأة وفكرة أن تغرسها في شعري، بينما مرافقها يصور ليظهر بعدها هاشتاق سعوديات يتمعاطن بالشوش في رحلة إلى لندن!
غطيت نفسي بطرحتي واخترت السلامة، خاصة أنه لا بد من المعركة الكلامية حول التصوير في حفل افتتاح سوق عكاظ، والذي ظننت أنه لن يلاحظني أحد فيه، إلا أن حلا ذات الـ5 سنوات ابنة أخي صرخت في أمها وهي تشاهد الحفل جدتي عزة جدتي عزة لأتلقى بعدها استفهامات لطيفة من أشخاص لطيفين أجبت عنها بنعم، فلم يكن هناك ما يعيب إلا في عقول أصحاب النفوس المريضة.
في الحقيقة، كان حفل الافتتاح مميزا جدا رغم أنني من الطلاليِّين، الذين إذا غنى محمد عبده أورق صوت طلال في قلوبهم وهمس: أنا راجع أشوفك سيرني حنيني إليك.
وفي الباص، خلال عودتنا إلى الفندق، كان هناك نقاش حوله وحول اللغة العربية بين الدكتورة فاطمة القرني عضو مجلس الشورى والشاعرة المغربية باحثة الدكتوراه حياة نخلي، عما يحق للشاعر ولا يحق، بدا كأنه مناظرة نحوية تم استعراض آراء علماء اللغة فيها، لم يبعدني عنها سوى حديث جميل مع روضة الحاج شاعرة سوق عكاظ القائلة:
خنساء ما جربت كيف يصاب حزنك بالصمم
ويبح صوتك من مناداة العدم
ويضيع ثأرك خاسئا
في مجلس للأمن أو في هيئة تدعى الأمم
وعلى طاولة العشاء، كانت هناك أمسية أهدتني إياها الشاعرات العكاظيات، وهن: السعودية نجلاء مطري، والمغربية حياة نخلي، والشاعرة السودانية ابتهال تريتر القائلة:
مالي يهددني الغياب مدائنا
تركت علي مواجعا وطلولا
أنا قد خلعت على عكاظك بردتي
وطفقت عرضا في البلاد وطولا
هي مسرحي لكن حبك أمتي
هيا اعطني خلف الستار فصولا
وفي الصباح، كانت الشاعرة الحساوية الرقيقة تهاني الصبيح وقصائدها الوطنية، وكلما ألقت قصيدة قلت في نفسي أين مناهجنا عن هذا الجمال واللغة الأنيقة:
همْ أفطروا بالموتِ ثمّ استوقدوا
نارَ الضيافةِ عند بيت الهادي
فأتمّ تكبير الصلاةِ صيامهمْ
ومضوا قرابيناً لأرضِ بلادي
مضت الرحلة إلى لندن مع تلك المرأة ومرافقها بسلام، وسلم شعري ولله الحمد. وفي الطابور نحو رجل الحدود، والذي أعطته بريطانيا حق طرد من يشتبه به، كانت تلك القصائد تغزوني مرة أخرى وتهطل كما مزن الطائف، فلما وقفت أمام رجل الحدود وأعطيته جوازي، سألني على غفلة مني: ماذا أدرس؟ فكأنما استيقظت وهمست: إدارة.. فقال بغضب مفتعل: كان يجب أن تدرسي طب، أنتم في السعودية بحاجة للطبيبات..، ضحكت من الفكرة وقلت له: لديكم 23% أطباء أجانب، لكن ذلك لم يمنعكم من النجاح، لأنكم آباء الإدارة في العالم. ابتسم ومنحني جوازي وهو يقول: كل الأمنيات بحظ عظيم للإدارة السعودية إذن.