الضمير الإنساني مسألة ثقافية بامتياز؛ فالأفراد والمجتمعات يكيِّفون أفعالهم وسلوكهم وتصوراتهم وفق حسابات مختلفة. وهي حسابات تتيحها لهم ثقافتهم وقد تفرضها عليهم فرضاً بما يجاوز وعيهم ولاوعيهم
كلما اشتدت حاجة بني الإنسان إلى ما يمنع توحشهم، ونهش بعضهم بعضاً، وسفك دمائهم بأيديهم، والتمادي في سحق الضعفاء منهم وقهرهم، اتسعت دائرة السؤال عن الضمير الإنساني: مصدر المعاتبة والتأنيب والشعور بالندم والعار، من ذات الإنسان لذاته، حين ينتهك حق غيره، أو يقترف ما يسيء.
وإذا كان السؤال عن الضمير الإنساني أمام التوحش والنذالة والخداع والتجبر الذي لم يتوقف طوال فترات التاريخ، سؤالاً عن فقدانه والحاجة إليه، فإنه أيضاً سؤال عن كنهه وحقيقته، ولكنه لابد أن يكون – كذلك - سؤال نفي له وتشكك فيه، وربما استنكار لذكره؛ لأنه – من وجهة الاستنكار هذه- نتيجة أوهام وسبب أوهام تُفَاقم خطورة البشاعة والدمامة في واقع البشر.
وهذه أسئلة متداخلة، يفضي بعضها إلى بعض، وينبع بعضها من بعض. فالسؤال عن فقدان الضمير الإنساني بسبب اتصال الحروب وكثرة الانتهاكات في حياة الأفراد والمجتمعات، يجيب عن كُنْه الضمير ويصف وظيفته، وهذا إثبات له من وجه، وإنكار له من وجه آخر. فلا حاجة إلى ما لا يمكن وجوده وهذا دليل إثباته، والحاجة إلى وجوده – في الوقت نفسه - دليل غيابه وعلامة انتفائه. وكأن الضمير، وجوداً وعدماً وقوة وضعفاً، لا يستقل عن مشاعر تمنينا له وتفاؤلنا به ويأسنا منه واحتجاجنا عليه.
ولعل التباس مفهوم الضمير، وتأرجحنا في الاطمئنان إليه، وترددنا في أحكامه، متأت من تصور تجاهه يمنحه الصلابة والامتلاء، ويسبغ عليه الثبات والتعالي، بحيث يكون أشبه شيء بالمسطرة التي نتبين بها الاعوجاج في الخطوط، ونفرض بها الاستقامة والسويّة، ثم لا نستطيع –عملياً- العثور عليه ولا تلمس وجوده بهذه الصفة.
والمؤكد أن أوصاف الصلابة والتعالي والثبات مستحيلة تجاه الضمير؛ لأنها تخالف طبيعته الداخلية والذاتية التي يستحيل إدراك الغير لقصدها ونيتها، ويصعب توحيدها بين الأفراد وبين المجتمعات وتعميم الحس بها على الكل الإنساني، على الرغم من التشارك فيها.
هكذا يصبح الضمير الإنساني مسألة ثقافية بامتياز؛ فالأفراد والمجتمعات يكيِّفون أفعالهم وسلوكهم وتصوراتهم وفق حسابات مختلفة. وهي حسابات تتيحها لهم ثقافتهم وقد تفرضها عليهم فرضاً بما يجاوز وعيهم ولا وعيهم، إلى حيث يفقد الوجود حياديته المطلقة، فتلوِّنه الثقافة وتُسبِغ عليه المعاني؛ وما ليس له اسم ليس له وجود من منظور الإدراك الإنساني.
وبوسعنا أن نتأمل الاختلاف والتنازع الذي يستدير على فعل واحد من جهتين: إحداهما تجرِّمه وتقبِّحه، والأخرى تدلِّل به على بطولة وتمعن في استحسانه. فالفعل واحد ومعناه وقيمته مختلفان باختلاف زاوية النظر إليه. وهو اختلاف حول نفعه وضرره ولكن المهم هنا هو تسميته وتبريره والتقويم له بما يلبسه بلباس ثقافي في لغة التسمية والتبرير والتقويم والمصطلحات التي يُدَل عليه بها.
إن قتل الشرطة الأميركية –مثلاً- لشاب أسود، في بعض الولايات، اتخذ صفة الجريمة العنصرية من جهة، ولكنه – من الجهة الأخرى- كان مبرَّراً بالدفاع عن النفس، ووصف وحشية السود، ومساندة سلطة الدولة وقوة الشرطة.
والاستعمار وهو جريمة عدوان على المستضعفين، أخذ مبرر الإعمار والإنهاض للمتخلفين. وأخذ سكان أميركا وأستراليا الأصليون صفة التوحش والبربرية من قبل البيض الأوروبيين لسَتْر جريمة الإبادة والاضطهاد التي اقترفوها في حقهم.
وأظن أن أحداً لن يجد –تقريباً- في ساحات المحاكم أحداً يرضى بما حُكِم عليه به، وفي هذه الحالة يصف المحكوم عليه القاضي الذي أصدر الحكم بالظالم وحكمه بالمجحف. ولو جاء الحكم له لا عليه، فسيتوِّج القاضي بصفة العدالة، وحكمه بعين الإنصاف والصواب.
وكم مَدَح الشعراء من ممدوح هو أحق بالهجاء منه بالمديح، وكم هجو من نبيل أو منصف لا مشكلة بينهم وبينه إلا ترفعه عن صفاقتهم! وكم صنعت البلاغة اللفظية من السُّراق أبطالاً، ومن الأفاضل حمقى...!
وهذه أمثلة واضحة، ولكن المقصود يجاوزها إلى ما لا يتضح بالخصومة بين طرفين، ولا بقياس أحكام القيمة على الأفعال والذوات من زاوية ما تعود به من منفعة ومصلحة على من يطلقها. فعدم الوضوح هنا لا يعني وجود واقعة لا تنحاز إليها الرؤية من زاوية ما، أو يتلبسها الوصف، ويُضفَى عليها المعنى من جهة خفيّة.
والنتيجة هي ما قررناه أعلاه بشأن الضمير الإنساني؛ فهو ليس متعالياً وثابتاً وخارجياً، بحيث يمكن الاحتكام إليه، وقياس صحة الأفعال أو خطئها بمقياسه؛ وذلك على الرغم من وجود قيم إنسانية مشتركة تفرق بين الخير والشر، وبين الوردة والرصاصة...
أما الأدهى من ذلك فهو أن وجود الضمير بما يفرض اتفاقاً على المجتمع، ويمنع أي تنازع أو اختلاف إيجابي – وهذا وجود غير ممكن عملياً كما رأينا- هو وجود مضر، لأنه يفرض الجمود والثبات ويمنع تقدم المجتمع وحركة التاريخ.
ولقد استحضر عالم الاجتماع العراقي الشهير، علي الوردي، في كتابه مهزلة العقل البشري بسخرية مريرة أفكار الفلاسفة الطوباويين عن المدن المثالية، مثل جمهورية أفلاطون، ومدينة الفارابي الفاضلة، وغيرهما، حيث ينعدم النزاع والعدوان ويسود الاتفاق.
إنها –فيما يصف- أحلام تصلح لعالم الملائكة، ولا تصلح لهذا العالم الذي نعيش فيه، فعالمنا لا يكف عن النزاع. بل بدا له أنه لو قُدِّر لإحدى هذه المدن المثالية أن توجد في واقع البشر؛ فلابد أن يشعر الناس فيها بأنهم في سجن يتشوقون للفكاك منه!
لكن هذا لا يعني انتفاء الحاجة إلى الضمير بل يؤكدها، ولا يستلزم الإنكار لوجوده بل يقرره.
فالحاجة إلى التلاقي بين البشر، واحتواء النزاع بينهم، ليست فقط حاجة مصلحية، أي حاجة منافع مباشرة، بل حاجة مبدئية. وهنا تبدو ضرورة الضمير الذي ينتشل النزاع الضروري بين البشر من أشكاله الشخصية والنفعية إلى نزاع حول مبادئ، ويسهم بذلك في الحد من العنف.
أما إذا عدنا إلى ما أرسته الاتفاقات الأممية من قوانين حقوق الإنسان، ومحاربة العنصرية، وجرائم الحرب، وقوانين الأسرى... إلخ، بالإضافة إلى انتشار الديموقراطية وتقلص الديكتاتوريات في العالم.. فإن ذلك كله علامات الوجود المحسوس للضمير الإنساني.
وبالطبع فما يزال العالم محمياً بالتوازن في الرعب، وما تزال بعض البقاع فريسة لمؤامرات الأقوياء ومصالحهم. وقد نقول إن تقارب العالم مدعاة إلى عدم التغاضي عن القلاقل البعيدة، فمصيرها أن تكبر، ثم تطرق الأبواب، ولكنا بالقدر نفسه نقول: إن تقارب العالم متضافر مع تصاعد المعنى الإنساني، وهذا المعنى يكسب الآن ونرجو الله أن يزداد كسباً.