دونك آلاف الرسائل المخطوطة والمطبوعة، في تراث ابن تيمية والذهبي وابن القيم والنووي وابن حجر وابن كثير، وغيرهم. كل تلك الرسائل العلمية، ليست إلا شرحا وهوامش وتحقيقات لما أُلِّف في عصر المماليك
أقرأ –منذ مدة– في تاريخ المماليك وحضارتهم والثقافة السائدة في زمانهم، والمماليك قوم من العبيد الأرقاء، كان يؤتى بهم من بلاد الترك والكرج الكرد، وبلاد الصقالبة أي ما يسمى اليوم بالقرم أطفالا، فيُعتَنى بهم منذ نعومة أظفارهم، ويتلقون الضروري من العلوم الدينية، وفنون القتال. بدأ الاعتماد على هذه الأجناس منذ عهد المعتصم بالله العباسي، لكنها انتشرت وأصبحت أشبه شيء بالثقافة السائدة في زمان الأيوبيين الذين استكثروا من شراء المماليك وتجنيدهم واتخاذهم جيوشا يثقون بها.
وكانت تربط المماليك بعضهم ببعض رابطة تسمى الخشداشية، أما علاقتهم بسيدهم فهي علاقة الأستاذية، فهو أستاذهم ومعلمهم، وهم مماليكه الأوفياء له وفاء لا حدود له.
وكان يعاملهم معاملة الأبناء، يرعاهم ويقوّمهم ويؤدّبهم ويربّيهم، ويثيبهم ويعاقبهم. ويصطفي لنفسه الثقات المبرزين منهم، حتى إن بعضهم تسنّم مناصب مهمة في الدولة.
وفي وقت من أوقات التاريخ، ولأسباب لا أطيل المقام بذكرها، أصبح هؤلاء المماليك هم سادة المسلمين، وأولياء أمورهم، وسلاطينهم.
أما عهدهم، فقد كان حافلا بالتناقضات، فساد سياسي بلا شك، ودسائس ومؤامرات وولاءات، وفي الوقت ذاته انتصارات هائلة ومذهلة على المغول تارة، وعلى الصليبيين تارة، فلم يقف في وجه المغول وأعادهم يجرّون أذيال الهزيمة إلا المظفّر قطز المملوك، ولم يقف في وجه الصليبيين ويلحق بهم الهزائم المتتالية إلا المماليك، ركن الدين بيبرس البندقداري، ثم قلاوون، ثم الأشرف خليل الذي طهّر بلاد المسلمين من آخر معقل من معاقل الصليبيين، وكانت معركة عكّا العظيمة.
انتشرت في زمان المماليك المدارس والأوقاف، أيضا لأسباب لا أطيل المقام بذكرها، ابتدأت فكرتها منذ عهد السلاجقة على أغلب الظن، ثم استمر هذا الانتشار في عهد الأيوبيين، ثم اتسع أيما اتساع في عهد المماليك، مدارس تعنى أشد العناية بالسنّة ومذاهبها، في مقابل التشيّع ولهذا مبحث آخر إن فسح الله في العمر، وفي تلك المدارس والأوقاف التي أُسِّست في الأصل لخدمة مذهب أهل السنة، ومواجهة التشيع؛ تخرّج علماء المسلمين الكبار، من أمثال: ابن تيمية والذهبي والبرزالي والمزّي وابن القيّم وابن كثير والسبكي، وغيرهم، ممن لم يتم بعد تحقيق كامل إنتاج الواحد منهم، فضلا عن مجموع إنتاجهم، فضلا عن إنتاج غيرهم من علماء المسلمين الكبار في ذلك الزمان، ولا تزال آلاف المخطوطات في انتظار من يقوم بتحقيقها ونشرها. ففتاوى ابن تيمية على سبيل المثال تتجاوز الثلاثين مجلدا. الفتاوى فقط! دع عنك كتبه السائرات الطنّانات التي لم يُعتنَ بها إلا في زمان قريب، ولا يزال بعض المحققين يسعى إلى إخراج ما لم يطبع منها، دع عنك ما فُقد من تراثه عبر العصور. هذا ابن تيميّة فقط، فما القول في غيره من علماء العصر المملوكي؟
سل أي باحث: إذا أردت أن تعود إلى كتاب في شرح صحيح البخاري فأي الكتب أعتمد؟ سيقول على الفور: فتح الباري الذي ألفه ابن حجر العسقلاني، وهو ابن العصر المملوكي. سل عن شرح صحيح مسلم، ستجاب على الفور، شرح النووي، سل عن أي الكتب يعتمد طالب العلم في علوم الرجال، سيخطر بباله، أول ما يخطر، لسان الميزان، وميزان الاعتدال، وغيرهما مما أُلّف في العصر المملوكي، سل عن كتاب يعاد إليه في التفسير، سيقال لك على البداهة: تفسير ابن كثير. سل عن التاريخ: سيقال البداية والنهاية وأمثاله. سل عن المعتمد في الفكر السلفي، ستحال بلا تفكير إلى كتب ابن تيمية، سل عن معتمدات الكتب الفقهية ستحال إلى المغني لابن قدامة، ومن يليه. سل حتى عن كتاب معتمد في الفكر الأشعري ستحال إلى عصر المماليك، على السعد التفتازاني وشروحه. لو لاحظت ودققت النظر، ستجد أننا نعود في ثقافتنا الدينية إلى ما كتب في عهد المماليك، وأننا نعتمد عليها اعتمادا كليا.
إن ثقافتنا الدينية، على التحقيق، مستقاة من مؤلفات عهد المماليك. بل حتى امتداداتنا الطائفية المتناحرة، إنما هي صدى لما كان في عهد المماليك.
لا، بل إني لأذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: إن ثقافتنا الدينية ليست هي ثقافة المماليك بالفعل، بل ما هي إلا صورة مشوّهة وناقصة ومبتورة عن ثقافة عصر المماليك، ثقافتنا الدينية ما هي إلا هوامش على متون المماليك، فإن كانت ثقافة المماليك جسدا، فثقافتنا بمنزلة الظل.
دونك عشرات الجامعات، وآلاف الرسائل المخطوطة والمطبوعة، في تراث ابن تيمية، والذهبي، وابن القيم، والنووي، وابن حجر، وابن كثير، وغيرهم. كل تلك الرسائل العلمية، ليست إلا شرحا وهوامش وتحقيقات لما أُلِّف في عصر المماليك.
حتى الصراع السلفي – الأشعري الصوفي اليوم، والصراع السلفي الأشعري –الشيعي اليوم، ما هو إلا امتداد للصراع في عصر المماليك، وإن اتخذ صورا لا تعبّر بدقة عن ذاك الصراع الآفل. فتاوى ابن تيمية في النصيرية، فتواه في ماردين، فتواه في كسروان، فتواه في الدروز، وفتاوى غيره من العلماء في ذلك الزمان، إنما كانت بنت سياقها السياسي والاجتماعي والتاريخي، كانت تعبيرا عن أحداث ذلك العصر، وعن مشكلاته، وعن سياقاته.
نأتي نحن فنأخذها كما هي، ونعتاش عليها، ونوظفها، ونستعملها، ولو كان أصحابها أنفسهم في زماننا لربما كان لهم موقف آخر، وفتاوى مختلفة. فتاوى ظهرت في أحوال وأحداث وسياقات، زالت سياقاها وأحداثها وأحوالها، وبقيت هي، يأخذها من يأخذها كما هي، وكأن لها –من ذاتها– صفة الخلود، والصلاحية لكل زمان ومكان وحال! من أجل هذا أقول: إن ثقافتنا الدينية لم تبلغ حتى أن تكون ثقافة مملوكية، لا من حيث الكمّ، ولا من حيث الكيف، نحن نقتات على ثقافة المماليك ولا نحسن تمثلها، لننتج ثقافة دينية لا هي تعيش في هذا الزمان، ولا هي تعيش في ذلك الزمان، نحن نعيش –ثقافيا- في هامش ثقافة المماليك، وفي ظل ثقافة المماليك، وعلى ضفاف ثقافة المماليك، متمسكون بهذا الهامش أشد التمسك، دون حتى أن نغوص عميقا في تلك الثقافة، فنعرف أسبابها، وسياقاتها، وأوضاعها، ولماذا رأى فلان وفلان هذا الرأي، واتجه فلان وفلان ذلك الاتجاه، وهل هذا الرأي وذاك المذهب صالحان حتى في زماننا هذا؟.