تداولت برامج التواصل الاجتماعي مقطعا يروي فيه أحد المواطنين قصة حصوله على تعويض مقداره 18 ألف ريال من إحدى شركات إنشاء الطرق جراء تضرر سيارته بسبب وقوعها في حفرة اعترضت مسارها على طريق تم إنشاؤه من قِبل تلك الشركة. ربما تبدو هذه القصة عادية في أماكن أخرى من العالم، ولكن نظرة إلى مقدار التفاعل الذي حظي به هذا المقطع في المواقع الإلكترونية لدينا يكفي بأن نعلم أن الأمر غير ذلك بالنسبة لنا، ولكن لماذا؟
هناك فيلم اسمه (عرض ترومان) قام ببطولته الممثل (جيم كيري)، يتحدث عن فكرة جريئة لأحد مخرجي برامج تلفزيون الواقع، حيث قرر أن يرصد حياة إنسان حقيقي منذ يوم ولادته ويبثها للعالم بشكل يومي على الهواء مباشرة دون أن يعرف ذلك الإنسان شيئا عن الأمر. لتحقيق هذا الغرض تم إنشاء مدينة مصطنعة بالكامل، وتبني أحد المواليد ليترعرع ويعيش فيها. يعيش ذلك الشخص بمشاعر حقيقية ولكن البيئة المحيطة به خلاف ذلك. فكل ما حوله وهمي، وكل من حوله ممثلون يؤدون أدوارا يعدها المخرج ارتجالا على الأغلب. يسأل أحد الصحفيين في أحد منعطفات القصة مخرج البرنامج: لماذا في ظنك لم يقترب ترومان من اكتشاف الطبيعة الحقيقية للعالم المحيط به؟ فيجيبه المخرج: نحن كائنات ترضى بواقع العالم كما يقدم لها لا أكثر.
يصدق قول ذلك المخرج على أغلب بني البشر، إذ يكتفون بتقبّل البيئة ويحاولون التكيّف معها فقط. لعل هذا ما يدفع الكثيرين من الذين تتضرر سياراتهم بسبب سوء حالة الطرق إلى تحمل خسائرهم بأنفسهم دون أن يفكروا بفعل ما قام به ذلك المواطن. ولعله أيضا ما كان وراء استغراب الشرطي الذي طلب منه المواطن إعداد شكوى ضد الشركة المنشئة لذلك الطريق الفاسد. فالذي لم يفكر بوجوده أحد من قبل هو بمثابة غير الموجود بالنسبة لمعظم الناس مهما بدا منطقيا أو بديهيا بعد اكتشافه. لم يشاهد كثير من الناس من فعلها قبل ذلك الرجل، لذلك فالأمر يستحق المشاهدة وإعادة النشر لآلاف المرات، مع شيء من التعجب والتساؤل لدى معظمهم هل الأمر بهذه السهولة يا ترى؟!.
يعتمد العقل العملي بشكل عام على جدلية يتناوب فيها سؤالان هما السؤال (لماذا) والسؤال (لماذا لا)، يرى العقل ظاهرة تطرد بشكل ما ليتساءل (لماذا) ثم يحاول تصور سيناريوهات أخرى لحدوثها متسائلا (لماذا لا). (لماذا) وقعت سيارتي في حفرة من المفترض ألا توجد في هذا المكان؟ ثم (لماذا لا) أقاضي المتسبب لي بهذا الضرر؟ رغم بساطة هذا المنطق إلا أن الأغلبية لا تستعمله لأنهم ببساطة (كائنات ترضى بواقع العالم كما يقدم لها لا أكثر) كما قال المخرج في فيلم (عرض ترومان). إذن فلتستعد شركات إنشاء الطرق للشكاوى المماثلة من الآن فصاعدا، فالعالم الذي تم تقديمه قد تغير بعد شيوع هذا الفيديو! سيعمد الناس إلى الشكوى دون حاجة إلى تفعيل خاصية (العقل العملي)، فخاصية (الاقتداء والتقليد) تفي بالغرض الآن.
لا أعرف من هو (الغشيم) الذي وصفوه زورا بالحكيم عندما قال اللي عنده عيون وراس، يسوّي سواة الناس. ولكني أعرف أن الناس المبرمجين على هذا النمط لا يعيش كل منهم حياته، بل يعيش جميعهم حياة واحدة مستنسخة. لعل هذا هو أحد ملامح العمى البشري الذي عبر عنه (جوزيه ساراماجو) في روايته (العمى)، لا سيما ذلك المشهد الذي كان يتصارع فيه العميان على بعض الأطعمة التي اكتشفها أحدهم دون أن يدركوا أن بضع خطوات إضافية في اتجاه مختلف كانت كفيلة بإيصالهم إلى أكوام مضاعفة من ذلك الطعام.
من المفيد ألا نخضع دائما لجاذبية تقليد الآخرين، وأن نستبدل ذلك بتنشيط منطقة السؤالين (لماذا ولماذا لا) في أدمغتنا، وإلا فإننا قد نحجم عن أكوام من المنافع، بل ربما عن حقوق مستحقة لنا دون أن ندرك.
أخيرا من المهم أن نفهم أن ما قام به هذا المواطن من مقاضاة لتلك الشركة لا يقع في خانة الحقوق فحسب، بل في خانة الواجبات أيضا، فهو تكريس لثقافة المقاضاة التي تعتمد على مفهوم احترام الحقوق والقانون. هذه الثقافة التي أقصتها إلى جانب فكرة (القبول بالواقع) رواسب عرفية تختزنها مجتمعاتنا دون مبرر عملي أو منطقي، كأيقونة (العوض ما فيه خير) وأيقونة (امسحها بوجهي) وغيرها من مفاهيم نسجت في مجتمعاتنا بشكل بارع على هيئة شبكات تفلح في اصطياد الصغير من السمك، بينما تنجح الأسماك الكبيرة في النفاذ من فجواتها في كل مرة.