الذين يقرؤون المستقبل بناء على ما يتوافر من حقائق علمية وخيال ذكي، يخبروننا بأنه خلال العشرين سنة المقبلة ستتغير طريقة حياتنا ودراستنا وعلاجنا وترفيهنا وعملنا بشكل جذري. وبأن التغير حتمي

عندما بدأ البشر يستقرون ظهر مصطلح الوظيفة، حيث يعلم الناس في أعمال محددة، إما توارثوها عن أجدادهم أو تعلموها من غيرهم. ومع ظهور التعليم النظامي كانت الطريقة المثلى لدى الآباء لتأمين مستقبل جيد لأطفالهم هي إرسالهم لأفضل المتاح من المدارس والمعاهد والجامعات. وبعد التخرج سيعملون في وظائف تعتمد على تخصصاتهم، وسيبقون فيها حتى التقاعد. لكن من النادر جداً أن يكّون هؤلاء ثروة طائلة في بداية حياتهم المهنية، ما لم يكونوا أبناء عائلات ثرية تدعمهم لبدء عمل تجاري. أما في عالم اليوم فلم يعد هذا السيناريو منطبقاً على الجميع.
فلم يعد الأشخاص بالضرورة يعملون في وظيفة واحدة فقط، ولم يعودوا مجبرين على العمل في تخصصاتهم. فليس غريباً أن تصادف شخصاً درس الفيزياء في الجامعة، لكنه يعمل في العلاقات العامة، لتميزه في مهارات التواصل والاتصال، وهو كذلك يصمم الهويات التجارية للشركات، ويقوم ببناء مواقع الإنترنت للأفراد. وهذه المهن المتعددة التي يقوم بها تحقق له دخلاً (ومتعة!) أكثر بكثير فيما لو اكتفى بوظيفة محددة.
وأعرف زميلة خريجة تخصص تقليدي، لديها عملها الخاص كمصممة أزياء نسائية، وتعمل مذيعة غير متفرغة، وتمارس الكتابة. وعملها على هذا النحو ربما لا يحقق لها الراتب الثابت والمزايا فيما لو عملت كمعلمة أو موظفة إدارية في القطاع الخاص، لكنه يمنحها أموراً أخرى كالاستقلالية في اختيار ما يناسبها، والمرونة في ساعات العمل، وهذا أمرٌ مهم جداً بالنسبة لها كونها زوجة وأم لأطفال صغار.
فالفكرة الأساسية ليست أن تزهد في الوظيفة، أو أن تعمل في عدة مهام لا علاقة لها ببعضها، وإنما أن ترى المستقبل لك ولأطفالك بصورة مختلفة. فهناك وظائف وأعمال لا يمكن ممارستها إلا بالتخصص مثل الطب والتمريض والطيران وبعض فروع الهندسة والتعليم، ولكن ينبغي أن تكتفي بعمل واحد فقط؟ أو أنه يجب أن يكون لك مسمى وظيفي محدد؟
أستغرب عندما أقرأ نصائح البعض للطلبة والشباب هنا في المنطقة العربية بأن يكتفوا بذكر أشياء محددة ومترابطة في السيرة الذاتية، وأن يتركوا خارجها أعمالاً أو هويات مارسوها وباتت لديهم خبرة فيها. فهذا عكس ما كان يقال لنا في بريطانيا، بأن الاكتفاء بذكر التعليم والوظائف في السيرة الذاتية يجعلها عادية ومملة. فما يجعلها مميزة، وبالتالي ما يجعل صاحبها موضع الاهتمام، هي كل تلك الأمور الإضافية التي تختلف من شخص لآخر، والتي تبرز المهارات الأخرى التي لن تظهر على الورق إلا من خلالها، مثل التواصل أو الإبداع أو التفاوض. وفي كل مقابلة وظيفية أجريتها في بريطانيا مع شركات كبرى مثل شل (التي انتهى بي العمل لديها) وIBM وHP وشارب، فإن أكثر الأسئلة كانت تدور حول نشاطاتي التطوعية واللا صفية أكثر مما كانت تدور عن لغات البرمجة التي أجيدها أو عن رسالة الدكتوراه الطويلة!
الكثير من الشركات العالمية اليوم، وخاصة تلك التي تشجع وتعتمد على التقنية والابتكار، وتحديداً في مجال تقنية المعلومات وتطبيقاتها، تحتار في المسميات الوظيفية التي تمنحها لأفرادها الأكثر تميزاً، والذين سعت لاستقطابهم لكونهم متعددي المهارات، ويغطون، بطريقة مبتكرة، تلك الاحتياجات الوظيفية التي لا يمكن تحديدها مسبقاً. فهم من يصنعون وظيفتهم الخاصة ويبتكرون الأفكار الخلاقة التي يمكن أن تكسب الشركات ملايين الدولارات. وإذا كان بعضهم، رغم تميزه وتعدد مهاراته، يختار العمل في شركة رائدة تقدر مهاراته المختلفة والمتقاطعة في آن واحد، فإن غيره لديه من الإمكانات الإبداعية والتقنية التي تجعله ينشئ بيئة عمله الخاصة التي ستجعله مليارديراً وهو بعد على سلم العشرين مثل مارك زوكبرغ مبتكر الفيسبوك.
وليس مارك وحده بدعاً عن غيره فهناك جاك دورسي مؤسس تويتر، وجيف بيزوس مؤسس شركة أمازون وغيرهم ممن كونوا ثرواتهم في أعمار صغيرة لأنهم كانوا يملكون أفكاراً جيدة، ولديهم القدرة على تحويلها إلى منتجات ملموسة يستخدمها ملايين الناس. ومن قصصهم نتعلم كم هو مهم تعلم برمجة الحاسوب مثلاً، حتى لو لم يكن الشخص متخصصاً في علوم الحاسبات، فهي ستفتح له أبواباً لأفكار خلاقة في مجال ريادة الأعمال. بالإضافة إلى أن تصميم البرمجيات وكتابة الشيفرة البرمجية يعلم الفرد مهارات مهمة أخرى: التفكير المنطقي وحل المشكلات. وهي مهارات يحتاجها الإنسان ويستخدمها في قطاعات مختلفة من الحياة من الطب إلى العمارة، ومن الحقوق إلى السياسة. وإذا كانت هذه المهارات كانت دائماً مطلوبة، فإن الحاجة لها تتضاعف في عالم اليوم وفي المستقبل أيضاً، لتعدد الخيارات، وتداخل المشكلات، وزيادة التنافس، والرغبة الملحة في تحقيق العدالة الاجتماعية.
العلوم تتطور والمعرفة تتغير، وباستثناء بعض القواعد الأساسية الثابتة في الرياضيات والعلوم الطبيعية والشرعية، فإن ما نتعلمه اليوم سيصبح في وقت غير بعيد منتهي الصلاحية. وبالتالي فإن التعليم القائم على الحفظ، وعلى حشو الطلبة بأكبر كم من المعلومات لم يعد مجدياً بأي لغة كان. فالتعلم المستمر أو التعلم مدى الحياة هو المتوقع اليوم من الفرد ليواكب التطورات ويظل مغرياً للتوظيف من قبل الشركات التي بات يهمها مدى قدرة موظفيها على التعلم مستقبلاً وليس على ما يعرفونه الآن.
ويبرز سؤال الأهالي هنا، مع اتجاه العالم بعيداً عن التخصص، هو: ما الذي يجب أن يتعلمه طفلي إذاً؟
الخبراء يقولون يجب أن يتعلم بالطبع المهارات الأساسية: القراءة والكتابة -بلغته الأم- والحساب، لكنه يحتاج أيضاً إلى معرفة إحدى اللغات الأوروبية الفاعلة، وهي غالباً الإنجليزية أو الفرنسية، ومعها اللغة الصينية، فالمستقبل في الصين. وكذلك تعلم مبادئ برمجة الحاسوب، وكيفية تحليل البيانات الهائلة، والتفكير المنطقي. والأهم من ذلك كيف يتعلم مهارة جديدة؟ كيف يتأقلم مع بيئة عملية اجتماعية متغيرة بشكل يتسارع؟ كيف يبحث عن المعلومة من مصدرها؟ وذلك لن يتحقق دون مهارة القراءة الحرة. أيضاً أن يتعلم كيف ينفتح على الأفكار غير التقليدية، ويتقبل اختلاف الآراء والثقافات، مع اعتزازه بهويته وتاريخه ودينه وثقافته.
فالبصارون الذين يقرؤون المستقبل بناء على ما يتوافر من حقائق علمية وخيال ذكي، يخبروننا بأنه خلال العشرين سنة المقبلة ستتغير طريقة حياتنا ودراستنا وعلاجنا وترفيهنا وعملنا بشكل جذري. وبأن التغير حتمي، والبكاء على الماضي لا يجدي، وإنما لا يبقى إلا الاستعداد للمستقبل بشكل صحيح، ليجعلنا قادرين على وضع بلادنا وأولادنا في مكان لائق تحت الشمس.