ما زالت سيرة 'الكندي' العطرة تفوح في جميع أرجاء العالم لينهل العلماء من أبحاثه القيمة، وليؤكد 'الكندي' أن العلوم الدنيوية المقرونة بالعلوم الدينية أكثر قدرة وأشد قوة في تخليد الدين الإسلامي

إلى قبيلة كندة التي استوطنت جنوب غرب نجد، انتسب يعقوب بن إسحاق الكندي المولود في عام 175هـ، وأتم حفظ القرآن في الخامسة عشرة من عمره. كان بإمكان الكندي أن يتوقف عند هذا الحد من العلم والمعرفة، ولكنه آثر الانتقال إلى البصرة ليزيد من علمه علماً.
بدأ الكندي رحلة كفاحه بدراسة علم الكلام الذي كان يضاهي علم الفلسفة عند اليونان، ثم انتقل إلى بغداد ليدرس في مكتبة بيت الحكمة التي أنشأها هارون الرشيد وازدهرت في عهد ابنه المأمون.
تعلّم الكندي اليونانية والفارسية والهندية وتفوق على أقرانه في إتقان اللغتين السريانية واليونانية بعد سنتين، وأنشأ في بيته مكتبة تضاهي في ضخامتها مكتبة بيت الحكمة الشهيرة بمراجعها، ليصبح منزله مقراً للبحث العلمي ومنبراً للفكر والابتكار في علوم الرياضيات، والفلك، والفيزياء، والطب، والصيدلة، والجغرافيا، والموسيقى.
من خلال البحث العلمي وضع الكندي منهجاً توفيقياً جديداً بين العلوم الدينية والدنيوية، وقام بالاستعانة بالرياضيات لتطوير السلم الموسيقي، ليضع أول سلم للموسيقى العربية.
وعندما توفي الكندي عن عمر يناهز الستين عاماً، ترك وراءه حوالي 300 كتاب ومرجع، من أهمها رسالته التعريفية بالنظرية النسبية، حيث اعتبر الكندي الوقت والفراغ والحركة والأجسام قيماً مطلقة نسبية لبعضها البعض كما هي نسبية لمشاهديها، وهذا ما اكتشفه لاحقاً العالم الألماني ألبرت أينشتاين بعد وفاة الكندي بألف عام، وحاز على جائزة نوبل في الفيزياء في عام 1921م.
وما زالت سيرة الكندي العطرة تفوح في جميع أرجاء العالم لينهل العلماء من أبحاثه القيمة في الفيزياء والكيمياء والرياضيات والطب والهندسة والموسيقى، وليؤكد الكندي أن العلوم الدنيوية المقرونة بالعلوم الدينية أكثر قدرة وأشد قوة في تخليد الدين الإسلامي.
في مثل هذا الوقت من كل عام تصدر عن المنظمات الدولية نتائج تنافس شعوب العالم في مؤشرات التفوق العلمي. ترتبط هذه المؤشرات بمتوسط الإنفاق على البحث العلمي كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، وعدد العلماء والباحثين وأجهزة الكومبيوتر وبراءات الاختراعات المسجلة سنوياً لكل ألف من السكان، وعدد مراكز البحث العلمي في كل دولة، والأبحاث العلمية السنوية المنشورة.
في هذا العام تصدّرت إسرائيل دول العالم بعدد البحوث العلمية المنشورة مقارنة بعدد السكان، لتحتل المركز الأول بنسبة 12 بحثاً لكل عشرة آلاف نسمة، بينما جاءت أمريكا في المرتبة الثانية بنسبة 10 بحوث، ثم بريطانيا بنسبة 9 أبحاث، واحتلت الدول العربية جميعها المراتب الدنيا في هذه الإحصائيات.
للوصول إلى هذه المراكز المتقدمة، اتبعت إسرائيل سيرة الكندي التي افتقدناها في عالمنا العربي. فمنذ 10 سنوات قامت هذه الدويلة بتكوين علاقات استراتيجية مع الدول المتقدمة علمياً بهدف الاندماج مع مراكز أبحاثها لتنشيط علمائها وحثهم على المشاركة في برامج التطوير الأمريكية، والألمانية، والبريطانية، والفرنسية، والروسية، واليابانية، والصينية، والكورية الجنوبية، والتركية. اليوم أصبح لدى إسرائيل 21 شراكة علمية دولية، تتعاون معها من خلال علمائها في كافة مجالاتها، وتشارك في الاطلاع على نتائج أبحاثها قبل الغير لتقطف ثمارها التقنية، وتبادر إلى نقل تجاربها العلمية لدفع وتيرة الابتكار والإبداع داخل إسرائيل.
وأكدت منظمة العمل العربية هذه المعلومات في تقريرها السنوي الصادر بعنوان البحث العلمي بين العرب وإسرائيل، حيث كشفت المنظمة عن حقائق الفجوة العلمية والتقنية بين العرب وإسرائيل. أوضح التقرير أن نصيب المواطن العربي من الإنفاق على التعليم لا يتجاوز 340 دولاراً سنوياً، بينما يصل في إسرائيل إلى 2500 دولار.
وأشار تقرير المنظمة العربية إلى أن الدول المجاورة لإسرائيل هي من أكثر الدول العربية تراجعاً في مؤشرات التنمية البشرية التي تحدد مستويات الدخل والتعليم والصحة. ففي الوقت الذي تأتي إسرائيل في المركز 23 على مستوى العالم، تحتل مصر المرتبة 199، وسوريا المرتبة 111 والأردن المرتبة 92 ولبنان المرتبة 82. وفي حين يوجد في إسرائيل 217 جهاز كمبيوتر لكل ألف شخص، لا يوجد في مصر سوى 9 أجهزة فقط، وفي الأردن 52 جهازاً، وفي لبنان 39 جهازاً.
أما بالنسبة لعدد الباحثين العلماء في كل مليون نسمة، فلقد أكد التقرير أن إسرائيل تتفوق بعدد 1395 باحثا مقابل 136 باحثا لكل مليون مواطن في العالم العربي، وتصل هذه النسبة إلى 300 عالم في تركيا، و192 في جنوب إفريقيا، و217 في المكسيك، و315 في البرازيل، وترتفع إلى 5000 في اليابان، و3415 في روسيا، و2439 في أوروبا، و4374 عالما في أمريكا لكل مليون مواطن.
أما إحصائيات منظمة اليونسكو فلقد أشارت إلى أن معدل الإنفاق العربي على البحث العلمي لا يزيد عن 0.2% (اثنين في الألف) من الناتج العربي الإجمالي سنوياً، في حين بلغ هذا المعدل في إسرائيل 4.7%، لتقفز بذلك إلى المركز الأول متخطية أمريكا التي لا يزيد معدل إنفاقها على البحث العلمي 2.7%، وفلندا 3.6%، والسويد 4.2%، ودول جنوب شرق آسيا 2.8%، واليابان 3%.
نحن اليوم في أمس الحاجة للعلماء أمثال الكندي، الذي خلّد سيرةً عطرةً استفاد منها الشرق والغرب ولم يستفد منها العالم العربي.