حدث هذا قبل أربعين عاما بالضبط، فرح أبونا الشيخ الكبير بمولد ناصر الذي أسماه على جده لأمه الذي رباه يتيما، وكان حبه يكبر ويكبر لتنضج ثمرة الحب لثلاث بنات وثلاثة أبناء أكبرهم أنا.
بيتنا الطيني الذي يقع قرب شارع الأعشى يشهد شارعه وبيوته الحميمة حياة لم تعد ممكنة اليوم. كانت الحياة تفيق مع الفجر وادعة وتعود للسكون بعد غروبها.. بدأت أمي نورة النهار مع أول خيوط الشمس تحمل أصغر أبنائها ناصر وتنزل من الدرج بخطوات مثقلة بمعاناة الأيام التي قضتها برفقة أخي في مستشفى الشميسي، حين بقي أياما لا مرافق له إلا أمه التي حملته شهورا وما زالت. الأماكن تسمى باسم أهلها لذلك كان هذا المستشفى يسمى على عائلة الشميسي. كانت أمي تحكي لنا عن الطبيب السعودي الذي رآها تتألم فأمر بوضع سرير لها كمرافق، وبقيت تقول لأخي سلمان الطبيب: يا ولدي كن حسن الخلق مع الناس وساعد المحتاجين فقد مضت سنوات وأنا أدعو لذلك الطبيب الذي لم أعرف اسمه!
الضحى تكون نساء الحي قد انتهين من أعمال الترتيب والتنظيف المعتادة، تتزاور الجارات، أم سعود، وأم عمر، وأم عبد العزيز أخوات لم تفصل بين قلوبهن وأرواحهن جدران الطين الرحيم بالبشر، والحي أكثر ترابطا من أسر اليوم؛ الأبواب مفتوحة تستقبل الأحباب، كما باحة الدار التي تشرق عليها شمس النهار ويهطل عليها مطر الشتاء الشحيح. الحياة مشرعة للأحياء والشوارع حكاية أخرى!
كان ناصر يكبر بأعيننا وقلوبنا ولكن لم نشعر يوما أننا نحتمل أكثر من أعمال بسيطة نقوم بها ونترك العبء الأكبر على نورة؛ لأن أمي كانت تسبقنا للإنجاز إلا لو كانت واهنة فهي تطلب منا أن نساعدها وتظل تراقبنا بخوف وحنان الأمهات.
كانت تحمل هما لا ينتهي، البعثة التي التحق بها ابنها الأكبر وظنتها شهورا فإذا بها سنوات تجر سنوات؛ كانت عيناها تدمعان كلما غنى أبو بكر سالم: (يا حامل الأثقال خففها شوي).. دموعها ودعواتها كانتا رفيقتيها اللتين لا تتخليان عنها كلما استبد بها الشوق.
سارت الحياة وكانت تكبر وتكبر همتها في فعل الخير ورعاية من يحتاجها، فهي تعطي وفوق ما تعطيه تربط جسورا بين المحتاج وما يحتاجه. كانت تمد يدها برا وتسير بقدميها برا حتى لمن يقطعها.
حدثتني يوما عندما رأتني غاضبة عن التسامح قائلة أنا أسمع من يتحدث فيّ مغتابا وأتغافل عنه وأنام وقد تسامحت معه. كانت تزم الخير بيديها زماًّ ويفيض على من يحتاجه، هي أشبه النساء بهاجر، في سعيها بين الصفا والمروة، وكانت متبتلة في محراب الصلاة، وصوامة في أزمنة الصيام.
طافت ببالي الحكايات ورحيل أبي قبل عقدين وغيرها، وأنا أجلس على الكرسي المقابل للغرفة عشرين بالعناية الفائقة بالمستشفى الذي نقلنا أمي إليه قبل أقل من أسبوعين، وبقيت يومين وفاجأنا خبر بأنها الساعات الأخيرة من حياتها وأننا يجب أن نودعها.. كيف أودع أمي وأنا أعلم أنها لن ترد ولن تعود؟!
كنت أعلم أنها تشعر بنا أخذت أناديها بصوت مرتفع كما كنت أفعل طوال هذا العمر وكانت تجيبني: (سمي)، وأنا أنظر للضغط لمؤشر نبضات القلب، لم يفلح الصوت العالي، أخذت أناديها يمه يمه بإيقاع يرافق نبضات القلب.. بدأت بعض المؤشرات بالتحسن ابتهجت سألت قالوا هذا من تأثير الدواء المؤقت!
أمي تفقد حواسها، وفي طفولة ناصر المبكرة وجارتنا الكفيفة تزورنا أمسك ناصر بقفص العصافير يريها لجارتنا، قالت له أنا لا أرى، فأخرج العصافير وطارت بعيدا وهو يحاول وضعها في يدها..في الحي القديم كان الجيران حواسا لبعضهم، اليوم أمي بلا حواس وتعتمد على الأجهزة!
هنا جيران أمي، على اليمين امرأة تشير لابنها وتسأله وبالكاد يفهمها، وعلى يسارها شابة ثم شاب في العشرين في غيبوبة من شهرين نتيجة لحوادث سيارة منفصلة. في المستشفيات يتجاور الموت مع الميلاد، والتحسن مع التدهور، تأملت بإيقاع الدقائق البطيء، والعمر الذي مرّ سريعا ومفارقة تجاور مرض الشيخوخة مع تهور القيادة يخبران الكثير عن الحياة؛ ليقف الإنسان عاجزا إلا عن الرجاء وبذل الجهد والخير.
مرت الساعات بين خطى الحياة والموت، أدركت أن الدعاء بطول العمر في غرفة العناية قد لا يعني أكثر من ساعات أو دقائق نتزود فيها بنظرات وداع لمن نحب.. دار حديث عن امرأة توفيت قبلها وكأنني انتبهت لسؤال أين سيصلى عليها وأين تدفن؟ واستحضرت يوما من الأيام جاء طارق يسأل كفنا لزوجته.. لم تبخل عليه أمي وأعطته المبلغ المطلوب وكان مبررها أنها لن ترده، فالأصل أنه صادق وإن كان كاذبا فعليه كذبه.
فجر الجمعة رحلت أمي وغسلناها نحن البنات، وحملها الأحفاد والأولاد على الأعناق، وكانت آخر حياتها محمولة على البياض، كما كانت تحمل بداخلها مساحات لا تنتهي منه، رحمها الله.