في أحد المجالس اليومية، طرحت على أصدقائي ذوي الأفكار والهوايات المختلفة، استفتاءً متواضعا حول الأخذ بالفتوى من علماء السلف المتوفين، أمثال ابن حنبل والذهبي وابن القيم والبصري وابن تيمية رحمهم الله، أم الأخذ بخلافها من خيرة العلماء المعاصرين؟ فكان لفتاوى السلف الصالح النصيب الأكبر من اختيار الحاضرين.
كان لدى الجميع في ذلك الحين العلم بأن اختلاف الفتوى يرجع إلى اختلاف الزمن والمكان وطبيعة المُستفتى، إلا أن بريق تلك الأعلام كان يجر أصدقائي إلى تحطيم كل القياسات والقرائن، والالتفاف حول العتيق من الآثار والأقوال.
تملكني لحظتها اليقين بأن الموت هو من يضفي على صاحبه تلك الهالة من القداسة والاحترام، حتى لو كانت أقواله خارجة عن نطاق الوعي.
الغريب في هذا النوع من القداسة، أنها ليست متوقفة على الأقوال والفتاوى الدينية وحسب، بل إنها قد تشمل جميع نواحي الحياة كالعلوم والفنون والسياسة. فربما يكون للموت الفضل في تحويل رؤساء كانت فترة حكمهم كارثية إلى زعماء مُمجدين، يمتلكون قاعدة واسعة من المناصرين ممن عاصرهم أو أتى بعد رحليهم.
لكن؛ لا بد من التأكيد على أن قدسية الفتاوى والأقوال الدينية وأصحابها تعدّ من أشد أنواع القداسة خطرا وهذا لا يشمل نصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، فإضفاء القداسة على الفتوى تمنع مراجعتها وتحديثها وقياسها بالوقت الحاضر، وتكون سببا في جعل الدين متخلفا عن الزمن وغير قابل للتحديث.
وقد تقف هذه القداسة عائقا أمام ظهور العلماء والباحثين المجددين، لما تسببه توابع هذه القداسة من تنزيه وعصمة للعلماء السابقين، وخلق نوع من مقارنة ظالمة مع مخالفيهم من العلماء المعاصرين، كأن يقال: أأنت أفضل أم إبن القيم كي تفتي بكذا وكذا؟
ربما يكون الخطر الأعظم فيما تورثه قداسة العلماء، هو إضفاء الصبغة الإلهية على أحاديثهم، وإقفال باب النقاش حولها، وكأنهم كانوا يتكلمون نيابة عن الله عز وجل، وقد قيل على لسان عدي الطائي: أن هذا النوع من القداسة قد يجر العبد دون علم إلى الشرك والعياذ بالله.
خير ما يُختم به، ما روي عن مالك رحمه الله أنه وقف في المدينة وقال: كلٌ يؤخذ من كلامه ويُرد إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم.