المحاولة الانقلابية في تركيا أظهرت أن الترحيب بخيارات الشعوب يأتي حارا إذا ما انسجم مع مصالح قلة من اللاعبين الدوليين

أبانت محاولة الانقلاب التركية عن ردود فعلٍ غربيّة اتسمت بنبرةٍ يعرفها بعض خطابٍ وعظي شائع، ذهبت في ازدواجيتها إلى مستوياتٍ تؤكد افتراق التصريح السياسي، الذي يستمر دقائق ولا يقول شيئًا ذا بال، عن واقع البشر المُبتلين بالمحاولة، ومستقبل المعاش في مرآة الجنرالات، في لغةٍ فوقيّة لا تعوزها القدرة على توزيع الدروس يمنةً ويسرةً، حتى قبل إدانة الفِعل وتأكيد عنفه على السِلم الاجتماعي؛ كأن الفضاء الشرقي الذي تحل به أزمة جديدة، والمربوط غربيًا بتصدير الإرهاب واللاجئين ودعوات القضاء على مجتمعات الرفاه، هو المكان الأمثل لاستعراض الجود المبدئي الذي يصر ساسة غربيون على تأكيد أولويته، خاصةً إذا ما أتت رياح المجتمعات بما لا تشتهي مصالح السادة المُعلِمين!
محاربة داعش، في ميزان المصالح الغربية إثر المحاولة الانقلابية، والرغبة في عدم تأثير المحاولة على جدية الحكومة التركيّة في القضاء على التنظيم الإرهابي، كان أولويةً أخذت بأيدي كثيرين إلى التحذير من أن الانشغال بتصفية الجيوب الانقلابية في الجيش والمؤسسات التعليمية والمدنية الأخرى من أتباع فتح الله غولن قد يتيح مساحات رحبة ينشط فيها داعش، بعد أن تكشّفت، على نحو أوليّ، ضخامة الأدوات الانقلابية واتساع رقعتها وتجذرها في دوائر مقربة من القصر الرئاسي، مع ما قد يتطلبه ذلك من إضافة أولويات لها في حسابِ الزمنِ والجهد أسهمٌ وقيادات. ولا أظن النظر الأميركي/ الأوروبي إلى محاربة داعش بوصفها أولوية يختلف كثيرًا عن إستراتيجيات الدول المؤثرة في المنطقة، بما فيها تركيا التي تتهم التنظيم بالوقوف خلف تفجيرات ضربت أنقرة وإسطنبول، ما عنى أرواحاً بريئة أُزهقت وأمنًا خيفَ على دعائمه التقويض، وسياحةً في لغة الاقتصاد والاجتماع، أنذرت بقاصدينَ أقل بعد أن بلغ عدد السياح في 2015، أكثر من 36 مليونا، في ظل غياب أفواجٍ سياحية روسية إثر الأزمة التي نشبت بين موسكو وأنقرة.
أوروبيًا، يبدو الاتحاد، الذي لا تخفي تركيا اهتمامها الكبير بملف الانضمام إليه، في شكٍ من إجراءات الحكومة التركيّة بحق المشتبه بتورطهم في المحاولة الانقلابية، حتى ليبدو للمراقب أن الاتحاد الأوروبي مازال يرى تركيا جزءًا أصيلاً من الشرق الأوسط ومتاعبه، أخذاً بعين الاعتبار ما يُرى في الانقلابات كوجهٍ عالمثالثي يُستعان به للوصول إلى السلطة، بعيدًا عن الاحتكام لصناديق الاقتراع؛ أي ما يُضيف بُعدًا ثقافيًا إلى مسرح ردة الفعل، يعيد إلى الأذهان الاستفتاءين الشعبيين في فرنسا وهولندا اللذين رفضا انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي عام 2005، ناهيك عما يُقال عن ضرورة العضوية المسيحيّة لدول الاتحاد التي قد يُحالُ إليها التردد في قبول تركيا عضواً كاملاً، حتى بعد أن اتخذت أنقرة خطوات عدة في هذا الطريق، كالاعتراف باللغة الكرديّة وإلغاء عقوبة الإعدام عام 2002 (واقع الحال أن تركيا لم تشهد تنفيذًا فعليًا لعقوبة الإعدام منذ 1984). وهي العقوبة التي حضَّ الاتحاد الأوروبي على عدم إعادة العمل بها، على ضوء ما تردد، على ألسنة قيادات تركية، من احتمال تصويت البرلمان التركي بإعادة تطبيقها، وأن مصادقة الرئيس رجب طيّب إردوغان مرهونة بإقرار البرلمان ذلك.
الولايات المتحدة، بدورها، تريَثت قبل إدانة المحاولة الانقلابية، وظهر وزير العمل التركي في مقابلة تلفزيونية ليُشير إلى تورطها فيها، ما دعا أوباما إلى نفي ذلك جملة وتفصيلا، داعيًا أنقرة إلى أهمية أن تتناغم التحقيقات مع المشتبه بهم مع حكم القانون. المعروف أن تركيا، حليفة واشنطن في الناتو، ليست على وفاق مع إستراتيجية البيت الأبيض في المنطقة. العلاقة بين الطرفين بدأت فصلاً من التوتر بعد حرب الخليج الثانية، حين نشأ كيان كردي على حدود تركيا الجنوبية صبَّ وجوده النار على زيت حساسيّة الحكومات التركيّة المتعاقبة، إضافةً إلى ما يثيره الملف الأرمني على يد جماعة الضغط الناشطة في واشنطن، المطالبة باعتراف أنقرة بـمذبحة 1915، وصولاً إلى الموقف من أحداث المنطقة ما بعد 2011، وامتناع الرئيس أوباما عن الدخول بقرارات حاسمة في المأساة السوريّة.
المُلاحَظ، بعد المحاولة الانقلابية، أن ردود الأفعال هذه وغيرها مما لم يؤتَ على ذكره، أظهرت أن الترحيب بخيارات الشعوب يأتي حارًا إذا ما انسجم مع مصالح قلة من اللاعبين الدوليين، وأن صغائر الشخصنة، والتضحية بتجارب تنمويّة مجتهدة للإطاحة برئيس مُنتخب، هي من سمات عالَمٍ لم يعد التنكيل بالمبادئ أقل أمراضه شيوعًا.