القارىء، ولسوء حظ الكاتب، أصبح مثقفا وواعيا ومتخصصا، بل إن هذا القارئ صار يقرأ الكاتب من علو

أعود من جديد إلى الكتابة، رغم أنني أخال نفسي لم أبرح زنزانتها الفسيحة يوما ما، لكني ما إن أبدأ بمكان جديد حتى أشعر برهبة البدايات، وتأتأة المقال الأول، ثم تنهال الأسئلة المُحبطة: هل ما أكتب يستحق أن يُقرأ؟ قبل أن أصل إلى السؤال الدائري: لماذا نكتب؟
ولو كان السؤال موجها إلى شاعر لوجدت إجابة نزار قباني مقنعة أو على الأقل مبررا معقولا:
أَكْتُب..
كيْ أُفَجِّرَ الأشياءَ، والكتابةُ انفجارْ
أكْتُبُ..
كي ينتصرَ الضوءُ على العُتْمَةِ،
والقصيدةُ انتصار..
أما في الكتابة الصحفية، فإن أي إجابة -مهما تأنقت– ستأتي ساخرة أو متعالية، والمتعالي سيكون أحد مصادر السخرية حتى لو لم يرتكب أسفارها، فتعاليه سيوهمه أنه قادر على تشكيل رأي، وسيتجاهل وخز الأسئلة الجادة نحو: من هو قارئ الصحيفة؟ وعمّ يبحث؟ وهل ما زالت الصحف مصدرا لأي شيء؟
وبتنوع مصادر الخبر والمعلومة وحتى الرأي، أصبحت الصحف تأتي متأخرة، وأصبح كاتب الرأي ردة فعل لعمل الصحفي، وردة فعل هذه كلمة تحاول أن تلطّف كثيرا صرامة الحقيقة التي تقول إن الكاتب عالة على جهد الصحفي، فقضايانا المحلية التي هي جزء من جنون هذا العالم، غارقة في المفارقات، ولو دققت النظر في مانشتات الصحف كأي كاتب رأي فاضي لوجدت أن أخبارنا لا ينقصها سوى أن تضع في نهايتها علامة ترقيم لتتحول من خبر إلى رأي، فبعضها يكفي أن تضع في نهايتة الخبر علامة استفهام، وبعضها لا يحتاج سوى إلى علامة تعجب لتأجيج الدهشة والغرابة، وهناك أخبار -كأخبار مجلس الشورى- تحتاج أيقونات وجوه تعبيرية، كتلك الأيقونة التي تُظهر لسانها بشكل مستفز!.
وفي النهاية، أن تكتب في الصحيفة لقارئ –في أغلب الأحيان– ليس هو قارئ الصحيفة، والميزة التي تكون الوحيدة للصحيفة أن تضمن أن هنالك قارئا واحدا –على الأقل- سيقرأ مقالك، وهو المصحح اللغوي للصحيفة، وقد تكون محظوظا وتستفز مدير قسم الرأي، الذي اعتاد القراءة المسحية السريعة، لإحدى جملك فيوجهها إلى رئيس التحرير، وهكذا تكون مقالتك مقروءة، ونهاية مقال كهذا ستكون المنع، وللمقال الممنوع من النشر جمال لا يضاهيه حتى جمال خاشقجي، فهيئة التحرير ستُسمعك كلاما جميلا وعظيما عن قيمة مقالك، وبالطبع سيرضي هذا غرورك، ويجعلك تتجاهل لِمَ قبل هذا الكلام، كي تحتفظ بشيء من وهم أهميتك.
ولعلمك، إن هذا التفاعل لم يكن ليحدث لو تخلى الرقيب عن توجسه ووصل المقال إلى القارئ. القارئ الذي أصبح مثقفا وواعيا ومتخصصا لسوء حظ الكاتب، وأصبح القارئ يقرأ الكاتب من علوّ، إيمانا بمقولة توماس جيفرستون: من لا يقرأ شيئا على الإطلاق أكثر ثقافة ممن يقرأ الصحف فقط!