أخيرا.. وبعد 6 أشهر أعلنت
إيران أنها بدأت محاكمة مثيري
الشغب الذين اعتدوا على مقري
البعثة الدبلوماسية السعودية في
طهران ومشهد، خلال يناير الماضي،
وهي محاكمة لا يصح أن يطلق
عليها سوى أنها مهزلة، لعدم
توافر كثير من العناصر القضائية
الواجب توافرها في أي محاكمة من
هذا النوع.
من أبجديات التقاضي القانوني
أن يكون هناك مدعٍ ومدعى عليه،
وجريمة ارتكبت. ولا يتوافر من هذه
العناصر الثلاثة إلا الأخير، فالمدعي في
هذه المحاكمة غير معروف، لا سيما
بعد تصريحات مسؤولين إيرانيين
رسميين بأن جميع من اعتقلوا
على خلفية تلك الأحداث قد أطلق
سراحهم، كما أن مسؤولي الحرس
الثوري، الذي تربط قيادته علاقة
وثيقة بالمعتدين أكدوا في تصريحات
عديدة أنه لا توجد تهم بحق هؤلاء.
ومن أركان أي محاكمة أن يكون
هناك متهمون معلومة هوياتهم،
وهو ما لا يتوافر في هذه الحالة،
حيث تعمدت السلطات القضائية
حجب هوية العناصر المتورطة في
الأحداث، وبعد أن أعلنت طهران
اعتقال 100 من المشتبه بهم، تقلص
العدد إلى 48 ، ورغم ذلك لم يمثل
أمام المحكمة -حسبما زعمت وكالات
الأنباء الإيرانية- سوى 9 متهمين،
فيما غاب 12 آخرون لأسباب لا تزال
في رحم الغيب.
لكل ذلك يتضح أن تلك المحكمة
المزعومة ليست سوى مسرحية سيئة
الإخراج، لامتصاص غضب الرأي
العام العالمي، والإيحاء بوجود دولة
قانون في إيران، رغم أن الجميع
يدرك أن تلك الدولة ما زالت تتبع
الأساليب البوليسية، وتحاكم
معارضيها خارج أسوار المؤسسة
القضائية، بحيث تصدر الأحكام في
صورة قرارات، ولا تتوافر للمدانين
أبسط فرص المحاكمة العادلة، ولا
الحق في الاستئناف، ويتم التنفيذ
في ظرف ساعات قلائل من صدور
العقوبة. ومن المفارقات أنه حتى
هؤلاء يظلون أفضل حالا من آخرين
تقع عمليات اغتيالهم في الشوارع
لمجرد الاشتباه، أو يتم اقتيادهم
لأماكن غير معروفة يقضوا فيها بقية
حياتهم.
ومما يشير إلى عدم احتمال إجراء
محاكمة عادلة لمن تجرؤوا على البعثة
الدبلوماسية، وأشعلوا في مبانيها
النيران، هو ارتباطهم بدوائر نافذة
في دوائر صنع القرار الإيرانية، حيث
أشارت أصابع الاتهام إلى مسؤولية
عدد من قيادات الحرس الثوري،
وهم الذين وصفهم المرشد الأعلى
علي خامنئي، بأنهم أبناء الثورة
وشباب حزب الله المؤمن، السائرون
على نهجه، لكن النظام حاول فيما
بعد إلقاء اللوم على عناصر مندسة
وخارجة على القانون، كما زعم.
إذا كان رأس النظام الإيراني،
ومرشده الأعلى، الذي لا يجرؤ حتى
الرئيس على معارضته، أو مجرد
التعليق على قراراته أو آرائه يطلق
مثل هذه التصريحات الواضحة
المباشرة، فهي لا شك تعتبر مؤشرا لما
ينبغي أن تسير عليه المحكمة، لهذا
فإن أكبر المتفائلين لا يمكن أن يحلم
بأي حكم منصف، يأخذ على أيدي
المعتدين، أو يردعهم.
إن مهاجمة السفارات الأجنبية،
وإحراقها، والاعتداء على أفرادها،
هو صناعة إيرانية خالصة، دأب
عليها النظام المارق، إلا أنه لم
يدرك حقيقة بديهية، هي أن العالم
اليوم لم يعد كما كان بالأمس، وأن
التجاوزات التي ارتكبتها طهران
ومرت بسلام عليها في الماضي لن
تمر اليوم بنفس الطريقة. ولعل
النظام الذي لا يزال يغط في سباته
العميق قد فوجئ بالموقف القوي
الذي اتخذته المملكة، بقطع العلاقات
الدبلوماسية، ومطالبة الدبلوماسيين
الإيرانيين بمغادرة البلاد، كما
أتته الصفعة الأخرى من المواقف
الدولية القوية التي تفاوتت ما بين
الإدانة الشديدة وتخفيض مستوى
التمثيل الدبلوماسي، وصولا إلى قطع
العلاقات.
ربما يتساءل البعض عن
السبب الذي يدفع النظام الإيراني
إلى التغطية على مجرمين اعتدوا
على أملاك الغير، ونهبوها، وأخذوا
متعلقاتها إلى منازلهم، واعتبروها
غنائم حرب، على حد وصف بعض
قيادات الحرس الثوري، فإن الإجابة
تكمن في أن النظام الذي يدعي
الثورية يهمه افتعال مثل هذه
الأحداث، حتى يحافظ على وجوده،
ويهتم بحماية هؤلاء المجرمين الذين
ينفذون أفعاله الخارجة على القانون،
ويدعمون سياساته العدوانية.
ما يهمنا في هذا المقام هو إثبات
أنه لا تعويل على ما يزعمه النظام
الإيراني من محاسبة للمسؤولين
عن اقتحام المقرات السعودية، لأن
المحاكمة التي تجري حاليا هي
محاكمة صورية، لا أثر لها على
أرض الواقع ولا تأثير، وأن المحكمة
لن تقدم على إصدار قرارات قوية
بحقهم، ولن تملك سلطة قضائية أو
أمنية صلاحيات تنفيذ أي حكم، لأنها
لن تحاكم نفسها.
أما مهزلة المحاكمة، وغياب أبسط
قواعد التقاضي، والغموض الذي يلف
هوية المتهمين، فسيبقى نقطة سوداء
في تاريخ القضاء الإيراني.