لا شك أن التقرير كشف حماقات بوش وتوني بلير وسياساتهما العمياء التي وضعت البشرية كلها على حافة الهاوية وجعلت العراق بؤرة لصنوف الطائفية
في لحظة تبادل الإخوة العراقيين تهاني العيد صباح الأربعاء الأول من شوال، ينطلق من لندن تقرير لجنة شيلكوت المتضمن إدانة حكومة رئيس الوزراء البريطاني السابق بلير في اجتياح العراق مارس 2003 ليصنع علامة الرضا على محيا أهالي 200 جندي بريطاني قُتلوا في تلك الحرب.
في هذه الأثناء، تتوقف رسائل تهاني العيد عن هواتف العراقيين المحمولة لتبدأ في بث خبر تقرير شيلكوت ولجنته. حالة من اختلاط المشاعر في بغداد بين الذكرى الأليمة والواقع الذي تعيشه البلاد والمنطقة برمتها منذ ذلك الحين. لم يكن 200 جندي بريطاني نالوا حتفهم آنذاك سوى رقم مضروب في 1000 من ضحايا عراقيين حسب تقرير شيلكوت نفسه، وذلك على وجه التقريب. ومن ذاك اليوم الذي سقطت فيه بغداد إلى الآن، وأرقام الضحايا تتضاعف نتيجةً طبيعيةً لغزو العراق غير المبرر.
الكارثة الأعظم هي في التوقيت السيئ لخروج القوات الغازية منه، وتسليم البلد لمحرقة الطائفية التي أوقدت نارها الجمهورية الثورية الإيرانية. لم يكن العراق وحده المتضرر، بل المنطقة برمتها اشتعلت واتسعت رقعة النيران لتشمل العالم الغربي نفسه. أثناء الغزو، وقبيل سقوط بغداد، كانت الجماعات المتطرفة تتقاطر نحو العراق، أغلبها قادمة من أفغانستان، بدأت تتشكل وتعد عدتها لما بعد سقوط حكومة صدام، وما إن حانت الساعة المنتظرة حتى بدأ المتطرفون باكورة عملياتهم بنسف مقر الأمم المتحدة في العراق، أعقبه تفجير آخر بعد شهر واحد لنفس الموقع وهو فندق تتخذه الأمم المتحدة مقراً لها، وأعلن أبومصعب الزرقاوي مسؤوليته عن العملية.
وبالعودة للتقرير، فهو يتهم حكومة بلير بالتعجل في اتخاذ قرار الحرب المعتمد على معلومات استخباراتية مغلوطة، ويشير التقرير إلى أن حكومة بلير اشتركت في الحرب دون دراسة مستفيضة، وصورت مخاطر أسلحة الدمار الشامل في العراق بطريقة غير صحيحة، ولم تستنفد كل الطرق السلمية المتاحة.
ربما كان توني بلير سعيداً لهذا التوقيت الذي خرج فيه التقرير، ففي هذا الوقت بلاده غارقة في همومها السياسية والاقتصادية نتيجة خروجها من الاتحاد الأوروبي، وما ترتب عليه من المعارك لاختيار رئيس وزراء جديد خلفاً لديفيد كاميرون المناهض لعميلة الخروج من دائرة الاتحاد، فضلاً عن الأوضاع الاقتصادية المصاحبة. لهذا بادر بلير بالتعليق المقتضب والاعتذار البارد مبيناً حسن نواياه في اتخاذ القرار حينئذ، وأن المجتمع الدولي أفضل بكثير من دون صدام وحكومته. الرئيس الأسبق جورج بوش، بدوره شارك توني بلير الرأي نفسه في أول تعليق له على تقرير عيد الفطر المذكور.
لا شك أن التقرير كشف حماقات جورج بوش وتوني بلير وسياساتهما العمياء التي وضعت البشرية كلها على حافة الهاوية وجعلت العراق بؤرة لصنوف الطائفية والإرهاب وتصديره للعالم.
وبعد هذا كله، فإن أقرباء الجنود البريطانيين القتلى يستعدون لمقاضاة حكومة بلير نتيجة لتقرير الأربعاء الذي استمروا في اللهث وراءه وحشد الأمة البريطانية تجاهه ليخرج للعلن في حوالي مليونين وستمئة ألف كلمة، بعد تحقيقات دامت سبع سنين. القضية قد لا تقف عند هذا الحد فحسب، فالأمر يستدعي مقاضاة السلطات العراقية لبريطانيا بعد أن حصدت الحرب مئات الألوف من العراقيين وشردت الملايين وأوجدت الملاذ للتنظيمات الإرهابية على أراضيها. إن أرقام الضحايا العراقيين المهول من قتلى وجرحى جراء هذا الغزو يستدعي أيضاً مطالبة ذويهم بالتعويضات عبر المحاكم الدولية طالما صدر قرار الإدانة.
وهنا مسألة خطيرة ظهرت على السطح بعد صدور التقرير. تحدث البعض من زاوية أخرى حين جعلوا التقرير مستنداً لتبرير التطرف والإرهاب، مشيرين إلى أن ما يحصل من عمليات التطرف وتكوين جماعات إرهابية هو نتيجة طبيعية لما فعلته أميركا وبريطانيا، وهذا أمر خطير جداً. إن ما حصل من الغزو للعراق وتسليمه لقمة سائغة للطائفية والتطرف جريمة فادحة، وكذلك ما يحصل من الجماعات الإرهابية جريمة أكثر فداحة أيضاً، ولا تبرير للتطرف والإرهاب البتة. إن من يقوم باستغلال نتيجة التحقيق في حرب بريطانيا على العراق أو غيره من التقارير، هم مشاركون في جريمة الإرهاب والتحريض عليه ولهذا يجب متابعتهم وإيقافهم عند حدهم.