قاتل الله الجهل الذي يلبسه أصحابه ثوب العلم، فإنّ هذا النوع من العلم أخطر على المجتمع من جهل العوامّ، فجهل العوامّ بيّن سهل العلاج، أمّا هذا فمستتر بغرور المتعلّمين

هناك اضطراب عصبيّ يسمّيه علماء الأعصاب متلازمة أنتون وهو اضطراب ينشأ عن بعض أنواع الجلطات الدماغيّة التي قد تحدث تضرّراً في الفص الخلفيّ للدماغ، فينجم عن ذلك ظاهرة غريبة يصاب فيها الشخص بالعمى مع إنكاره لذلك.
يشرح (ديفيد إيجلمان) المتخصّص في علوم الأعصاب هذا بواسطة عرضه لحالة السيد جونسون، عندما يتحلّق حوله مجموعة من الأطّباء ليسألوه: كم منّا حول سريرك، سيّد جونسون؟ فيجيب بثقة: أربعة في حين أنّ عدد الأطباء حينها سبعة في الواقع! ثمّ يقول أحدهم: كم عدد الأصابع التي أمسكها الآن؟ فيجيب المصاب: ثلاثة، مع أنّ الطبيب لا يمسك أيّاً من أصابعه! وحين يسأل أحد الأطبّاء: ما لون قميصي، يجيب هو: أبيض، مع أنّه أزرق في الحقيقة!!
يخبرنا إيجلمان أنّ المصابين بهذه المتلازمة لا يتظاهرون بأنّهم مبصرون، بل هم يعتقدون حقيقة أنّهم كذلك. ورغم أنّ إجاباتهم اللفظيّة غير دقيقة إلّا أنّها ليست أكاذيب. إنّهم يشعرون بما يظنّونه إبصاراً، ولكنّ الحقيقة أن ما يشعرون به وهمٌ متولدٌ بشكل داخليّ ليس إلّا.
يخلق الدماغ المتضرّر عالماً بصرياً مزيّفاً للمصاب بهذه المتلازمة ليستقي منه تلك الأجوبة التي عادة ما تكون أجوبة غريبة ومختلطة، ليس لها إلا صلة ضئيلة بالعالم الواقعيّ.
وهذا شبيه إلى حدّ ما بالهلوسات أو بما يشعر به مدمنو المخدّرات أثناء تعاطيهم لها، أو حتّى بما يراه النائم في أحلامه.
في العادة لا يكتشف المصابون بهذه المتلازمة أنّهم يعانون من شيء غير طبيعي إلا بعد اصطدامهم بما يكفي من الأثاث والجدران، كما أنّهم يحتاجون إلى الكثير من المساعدة النفسيّة للتعامل مع وضعهم الجديد بعد إقرارهم به. يبدو لي أنّ بإمكاننا استعارة ما نعرفه عن (متلازمة أنتون) لنصف بها حالة ما بعد الاستعمار التي تمرّ بها شعوب منطقتنا. فمنذ دخولنا هذه الحقبة وحتّى هذه اللحظة ما زلنا نتوهّم الإبصار ونناكف الواقع من خلال ما يولّده لنا (دماغنا الجمعيّ) من عوالم وهميّة تمثّلت في الأيديولوجيات التي تتزامن حيناً وتتعاقب حيناً بل وتتداخل في حين آخر. احتجبت شعوبنا بالأجوبة الجاهزة التي تزوّدها بها هذه الأيديولوجيّات عن إدراك ما أصبنا به من حالة العمى عن المعرفة الحقيقيّة. لقد مضى زمن طويل ونحن نعاني ممّا أسماه المفكّر الجزائري مالك بن نبي (الجهل المتلبّس بثوب العلم) في عبارته: قاتل الله الجهل الذي يلبسه أصحابه ثوب العلم، فإنّ هذا النوع من العلم أخطر على المجتمع من جهل العوامّ، فجهل العوامّ بيّن سهل العلاج، أمّا هذا فمستتر بغرور المتعلّمين. ما زالت شعوبنا تصطدم بالجدران والأثاث تحت تأثير هذا النوع من الجهل المتنكّر دون أن تعي حقيقة حالتها غير الطبيعية، وإن كنت أحسب أن تداعيات ما تشهده المنطقة منذ 2011 من عنف ونكبات تمثّل المنعطف الفارق الذي بات معه لزاماً أن نخرج من مرحلة العجرفة الأيديولوجية إلى مرحلة الإقرار بالواقع والتواضع للحقيقة.
لا يعني مفهوم (التواضع للحقيقة) التخاذل والانهزاميّة بالضرورة، كما تسوّق عجرفة الهتافات بل يعني الوعي بالمعطيات الواقعية وتحسس النقائص وبحث الطرق لمعالجتها دون التورّط في خداع الذات. يقتضي التواضع للحقيقة أن تكفّ بعض حكومات المنطقة ومؤسساتها عن تضليل شعوبها بالأرقام الوهميّة التي تزعم تحقيقها دون عائد فعليّ، كما يقتضي أن تتعمّد الأوساط المتعاطية لمسؤولية الكلمة إشاعة أجواء النقد والنقاشات الجريئة دون تحيّز أو محاباة. إضافة إلى أهميّة الاعتراف بدور مراكز البحث والدراسات العلميّة ووصل القطيعة معها والاستضاءة بنتائجها في أي مسعى تقدّمي. لعلّ أبلغ وصف بتنا نحتاجه للمعرفة هو ما ورد في قول جورج إليوت بأنّه الحصول على ملخّص لجهلنا، وهو وصف يتطلّب منّا إزاحة الأجوبة القديمة إلى الهوامش، والعودة إلى وضع السؤال في المركز. فالسؤال قِبلة الحضارة ودليلها المبصر، وكلّ ثقافة تتحاشى طرح الأسئلة ثقافة عمياء منكرةٌ لعماها.