ليس الحل الحكم على عدنان إبراهيم بالضلال والإضلال، فهذا لا يجدي شيئا، بل الحل هو الرد العلمي عليه، الرد الهادئ ممن له منزلة ومكانة في عالم الدعوة والبيان

في أوائل عصر النهضة الأدبية في القرن الماضي، ظهرت شخصيات عظيمة، جمعت إلى الأسلوب الأدبي الصحيح الفصيح الرائق، عمق الطرح، وجدّة الأفكار، ولقد فازت مصر بالنصيب الأعظم من أولئك الرواد الذين كانوا -بحق- روّاد الفكر والأدب في العصر الحديث، فأثروا تأثيرا عظيما في مسيرة الفكر الإسلامي، وكانوا مدارس متعددة، اختلفت فيما بينها نعم، ولكنها بقيت وفيّة لعروبتها، ولدينها، وتراثها، فأبدعوا ما شاؤوا في شتى الموضوعات التي طرحوها، ومختلف الأفكار التي خاضوها. وصدرت من بعضهم شذوذات -إن صحّت التسمية- لكن تلك الشذوذات كانت سببا في تحريك الماء الراكد، وإيقاد جذوات الأذهان عند من يخالفونهم أو يوافقونهم، فازدانت المكتبة العربية والإسلامية بمؤلّفات خالدة لا نزال نرجع إليها حتى يوم الناس هذا.
وعلى الرغم من قسوة الردود آنذاك، بل بلوغ بعضها إلى المحاكم، بل تهييج الرأي العامّ ضد بعض الكتاب، وعلى الرغم من المحاققات والاستجوابات، بقيت تلك الردود والمعارك الفكرية والأدبية باقيةً مؤثّرة، لها منزلتها في الفكر العربي والإسلامي، تُكتَب عنها رسائل الدراسات العليا، ويعود إليها أصحاب الأقلام مرة بعد مرّة.
لكن حدثين أثرا سلبا في مسيرة هذه الحركة الفكرية والأدبية الناهضة فخنقاها خنقًا، حتى ذوت إلا بقايا حياة تومض الفينة بعد الفينة، إيماض السراج الذي انتهى زيتُه أو كاد.
الحدث الأوّل هو ثورة الضباط الأحرار في مصر التي قضت على الحريّات، فحدّت قدرات العقل التي لا تنمو إلا في أجواء من الحريّة واسعة، تأذن لأصحاب الأفكار أن يسجلوا آراءهم بمقدماتها ونتائجها، ثم حريّة الردّ مكفولة لمن ملك القدرة على الإقناع.
أما الحدث الثاني فهو الصحوة الإسلاميّة التي كانت تلجأ أحيانا إلى التكفير والتضليل، ولا يُسمح -في ظلالها- إلا لصوت واحد، واتجاه واحد، يردد الأفكار ذاتها، ويعيد الموضوعات بعينها، ومن يقرأ بعض مراجعات قادتها، أو يطلع على شهادة زعمائها -حسن الترابي نموذجا- يدرك حقيقة ما أقرره هنا.
وساد خطاب إسلاميّ محدّد، نشأ في ظلاله جيل أو جيلان من الشباب، أنا واحد منهم، خطاب إسلامي معروف لا داعي للحديث عن أدبياته التي نناقشها كلما سنحت فرصة، عشنا في ظلاله نصف أعمارنا، قضينا فيه طفولتنا، فمراهقتنا، فبكارة شبابنا، حتى انتصفت بنا الأعمار. وتحت قيود هذا الخطاب قررنا قرارات مصيرية في حياتنا، ندمنا عليها فيما بعد، ندمنا عليها حين علمنا أن الحياة ليست كما صوّره لنا أساتذتنا وقدواتنا.
دخلنا عالم الإنترنت، والقنوات الفضائية، فإذا إشكالات لم نسمع بها يوما، وإذا اعتراضات لم تخطر ببالنا البتة، في منتديات الحوار، والبرامج المذاعة على القنوات الفضائية التي تبثها قنوات مختلفة المشارب.
أثّر هذا فينا، وانفسح المجال لأفكار أخرى مشكلة، لا يمكن لهذا الخطاب الإجابة عنها، إلا بالتسليم بالأمر، أو بالإجابات التي لا تسلم من ثغرات يجب أن تُسَدّ.
أما أنا ففزعت إلى التراث الإسلامي، إلى مدارس أخرى أبحث فيها عن إجابات عن أسئلتي التائهة، التي لم تكن لتخطر ببالي لولا غوصي في عالم الإنترنت، ومتابعتي بعض البرامج، ثم دراستي أدب الطنطاوي التي حملتني على قراءة أدباء النهضة كلهم، فأثّر فيّ هذا تأثيرًا كبيرًا، وكان لحظة فارقة في تفكيري وبناء أحكامي على الأشياء، وتبيّن لي مقدار ضيق (القمقم الفكري) الذي عشت فيه، وندمت أشدّ الندم على فرحي -ائتساءً بمن حولي- بمقتل فرج فودة، رحمه الله، الذي لمّا قرأت كتبه علمت أنه ليس كافرًا مستحقًا للقتل بآرائه التي كان يصدح بها، والتي أخذ بها فريق من (الإسلاميين)، بعد فوات الأوان!
ثم احتككت بجيل تالٍ جديد من الشباب يصدح بنيتشه، وهيغل، وكانط، وهوبز، وغيرهم من الفلاسفة الغربيين، فإذا الخطاب الذي يجيبهم ليس هو الخطاب الذي تربيت عليه، هذا، وأنا لم أطلع على كتابات الجابري -مثلاً- ولا العروي، ولا حسن حنفي، ولا نصر حامد أبو زيد، ولا غيرهم إلا في الثلاثين أو بعدها بقليل!
أما الخطاب الديني السائد فهو خارج هذه المنظومة، لا يكلم الشباب بهذه اللغة التي لا يحسنها أصلاً، ويكتفي -في الغالب- بالتحذير من تلك الضلالات، وحين لجأ إلى (تجديد) في خطابه يراه مقنعًا، إذا هو يلجأ إلى (الإعجاز العلمي في القرآن) الذي يقسر آي الكتاب الحكيم قسرا، ويسقطها على بعض نظريات العلم الحديث واكتشافاته إسقاطا.
مشكلات وجودية وفلسفية تتعلق بالإيمان والإلحاد، وسؤال الحرية، وسؤال الدولة، وسؤال المرأة، ومشكلات تتعلق بالتشريع الإسلامي، لم تتصدّ لها الحركة الإسلامية بكل أطيافها تصديًا يشفي الغليل، أو يقنع المتسائلين.
إذا علمنا هذه الأوضاع فهمنا لِم يُقبل الشباب (المستنير) -مع اعتراضي على هذه اللفظة المطّاطة جدًا- على الدكتور عدنان إبراهيم الذي تصدّى لما لا يستطيع غيره التصدي له، لأنه لا يملك الأدوات لذلك. شيخ، إمام جامع، خطيب جمعة يقف على المنبر كل أسبوع، جمع إلى الدراسة الشرعية التقليدية، والفلسفة العربية الإسلامية، وعلم الكلام، وأصول الفقه، العلمَ بالفلسفة الغربية قديمها وحديثها، دع عنك فيزياء الكم، والمنطق الصوري والعلمي، يصاحب ذلك قدرة فائقة على الخطابة ومواجهة الجمهور، ثم القوّة في الطرح، وسعة الاطلاع، واستحضار المعلومات، وربط بعضها ببعض، في مزيج يندر مثاله فيمن يتصدى للشباب منذ مدة طويلة.
نعم، له آراء صادمة، أخالف -أنا شخصيا- بعضها، حقها النقاش والجدال وإقامة الحجة، والمستفيد الأوّل من ذلك هم الشباب، لعلهم يوسعون مداركهم، ويرجعون إلى أمهات الكتب فيقرؤون ويطلعون.
ليس الحل الحكم على عدنان إبراهيم بالضلال والإضلال، ولا بالتفسيق والتبديع، فهذا لا يجدي شيئًا، بل الحل هو الردّ العلميّ عليه، الردّ الهادئ ممن له منزلة وصوت ومكانة في عالم الدعوة والبيان.
هذا هو الحل -حقًا- إن شئنا أن ننقذ الشباب من ضلالات عدنان إبراهيم، إن كان على ضلالة.
أما الاتهام المجّانيّ، والدخول في النيّات، فليس هذا من النقاش العلمي، والجدال المنهجيّ في شيء. والله الهادي إلى سواء السبيل.