رأيت أناساً فتح الله على كلٍّ منهم في باب واحد من أبواب الخير، فألهمهم الله فعله كما ألهمهم أخذ النفس، لا يجدون في فعله مشقة ولا عناءً، ولا يحبون أن يحمدوا بما يفعلوا

للاستثمار أوقات تليق بكل نوعٍ من أنواعه؛ سواء في ذلك: الاستثمار الديني أو الدنيوي. ولأننا في أيام فضلى يكثر فيها الترغيب والترهيب، فقد رأيت من المناسب استعراض أحكام الاستثمار وأوقاته، وأنواعه، فمن استزاد فليستبشر، ومن اقتصد فليستثمر في مواسم أخر.
ومن يطالع في كتب الحديث الصحاح يجد مواسم الخيرات كثيرة؛ منها: ما هو مقصور على صاحبه، ومنها: ما هو متعدٍ إلى غيره.
والمقصور منها: ما يكون نفعه لصاحبه دون غيره؛ كالأذكار، والصلوات، والصيام، والعمرة، والحج، وسائر العبادات البدنية المندوبة.
والأذكار متيسرة وممكنة للجميع، ولذلك جاءت مواسمها على مدار الساعة في جميع أيام السنة، وهي التجارة المتاحة للفقراء والمساكين؛ كما جاء في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى، وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نُعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ؟ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ. قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولُ اللهِ قَالَ: تُسَبِّحُونَ، وَتُكَبِّرُونَ، وَتَحْمَدُونَ، دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً. فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ). متفق عليه، وللذكر باب يخصه من أبواب الجنة.
وقراءة القرآن أشرف أنواع الذكر، وفيه من الخير: أن الحرف بعشر حسنات؛ ليكون ختم القرآن بأكثر من ثلاثة ملايين ومئتي ألف حسنة، ومواسمه مفتوحة في غير أماكن الخلاء. وسور القرآن متفاوتة في الفضل بحسب دلالاتها؛ فمن السور: ما يعدل ثلث القرآن، ومنها، ما يعدل ربع القرآن.
والصلوات النوافل شاء الله لها أن تتمم ما ينقص من الصلوات الفرائض؛ كما جاء في الحديث الصحيح (وَإِنْ كَانَ انْتَقَصَ مِنْهَا شَيْئًا، قَالَ: انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ؟. فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ، قَالَ: أَتِمُّوا لِعَبْدِي فَرِيضَتَهُ مِنْ تَطَوُّعِهِ). ومن الصلوات النوافل ما يفعله المصلي وحده غالباً؛ كالسنن الرواتب، وصلاة الوتر، وقيام الليل، وصلاة الضحى، وتحية المسجد، وصلاة الاستخارة. ومنها ما يفعل جماعة؛ كصلاة العيدين، والاستسقاء، والكسوف، والتراويح، وقيام رمضان. وللصلاة باب يخص أهلها من أبواب الجنة. وللصلاة باب يخصها من أبواب الجنة. وقد استثنى الشرع أوقاتاً لا تجوز فيها الصلاة؛ لأسبابٍ منها: ألا تكون الصلاة سبباً في انقطاع الناس عن المعاش، وهي: ما بعد صلاة الفجر حتى ارتفاع الشمس، وما بعد صلاة العصر حتى الغروب، ووقت قيام الشمس في كبد السماء من الظهيرة حتى تزول، ومن الأسباب: أن تلك الأوقات يقدس فيها عبدة الشمس آلهتهم.
والصيام النافلة أفضلها صيام داود عليه السلام؛ وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً طيلة العام، ومنه: صيام الإثنين والخميس من كل أسبوع، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام أيام البيض، وصيام الست من شوال، وتسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء ويوم قبله أو يوم بعده. وللصيام باب يخصه من أبواب الجنة.
والحج والعمرة النافلتان تمحوان الخطايا، وتعيدان ابن آدم كيوم ولدته أمه بريئاً من الذنوب والخطايا.
أما الأعمال الصالحة المتعدية فهي: ما يمتد نفعه إلى الغير؛ كالتعليم، والصدقة بأنواعها، والجهاد، وحسن الخلق، والعفو عن المظالم، وكف الأذى.
والمتعدي نفعه للخلق من الأعمال الصالحة له مواسمه الدائمة بلا تحديد شهر ولا يوم ولا ساعة، فهو بقدر ما يتيسر للمرء فعله. فتعليم الناس العلم النافع حسبة لله سبب في أن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النمل والحيتان يُصلُّون على معلم الناس الخير، ولن يحرم من هذا الأجر المعلم المجتهد في أداء رسالته؛ وإن كان يأخذ على تدريسه راتباً. ومنه: طلب العلم؛ الذي يدعو الملائكة أن تضع أجنحتها لطالبه رضا بما يصنع. وللعلم باب يخصه من أبواب الجنة.
والجهاد ذروة سنام الإسلام يكفر الله به كل ذنب إلا الديون، وفيه من الفضل الشيء الكثير؛ حتى إن من أغبرت قدماه في الجهاد حرمه الله على النار، فكيف بما هو أكبر من ذلك؟ وله باب يخصه من أبواب الجنة. والصدقة سيدة الأعمال الصالحة المتعدية، فالنفع المادي يرفع الحاجة عن الفقير والمسكين، وأفضلها سقي الماء، وكفالة الأيتام. وفضائلها لا تعد ولا تحصى من فضل الله الكريم؛ فهي للخطايا كالماء على النار في الحياة وبعد الممات في القبور، ويكفي فاعلها أن الله يربيها لصاحبها كما تربى صغار الخيل حتى تصير اللقمة كجبل أحد، وبالصدقة تُتقى الفتن في المال والأهل والولد والجار، وبها يتداوى الصالحون، وهي مظلة صاحبها يوم القيامة، وبكل ذلك صحت الأحاديث. ولها باب يخصها من أبواب الجنة.
وقد تنوعت الأفعال لتنوع اهتمامات الخلق، وقد رأيت أناساً فتح الله على كلٍ منهم في باب واحد من أبواب الخير، فألهمهم الله فعله كما ألهمهم أخذ النفس، لا يجدون في فعله مشقة ولا عناءً، ولا يحبون أن يحمدوا بما يفعلوا: فمنهم: من يفتح الله عليه في قراءة القرآن ودوام الذكر؛ لا يكاد يفتر عنه في سكتاته.
ومنهم: من يفتح الله عليه في الصلاة؛ لا يجد وقتاً يكون فيه خالياً إلا وقام فيه يصلي.
ومنهم: من يفتح الله له في الصيام، صومه خير له من فطره، وبعضهم: يخفي صومه حتى لا تكاد تعلم أنه صائم. ومنهم: من يفتح الله عليه في العلم؛ لا تكاد تراه إلا قارئاً، أو كاتباً، أو معلماً.
ومنهم: من يفتح الله عليه في الصدقة، وكأنه هو الذي يأخذ المال حين يعطيه من يستحقه.
ومنهم: من يفتح الله عليه في صلة الأرحام، وكأن تتبعه لأرحامه وظيفته التي يأخذ عليها راتبه الشهري.
ومنهم: من يرزقه الله حسن الخلق، فلا تراه إلا محباً للناس، هاشاً باشاً في وجوههم، ناسياً ومتناسياً حقه عليهم، مؤدياً حقوقهم التي عليه.
ومنهم: من يرزقه الله حب الدفاع عن دينه ووطنه؛ فلا تراه إلا في استعداد تام لترك ماله وأهله وولده، ملبياً نداء ربه ثم ولي أمره. رحم الله شهداءهم، وشفى الله جرحاهم، ورد كيد الأعداء في نحورهم.