المنهج التأصيلي النصي الحرفي نزع كل معاني النصوص وفصلها عن سياقاتها وعطل مقاصدها الحقيقية، فأصبح تأويل تلك النصوص أمرا مستسهلا لدى الجماعات التكفيرية
كل من عرف بدايات الجهاد الأفغاني تقرر وترسخ لديه علميا ومعرفيا أن فكر المقدسي التقليدي التكفيري الجهادي المعاصر كان يُقرر في كتبه ورسائله التسلسل التالي: (لما كان العلماء ضالين مضلين لأنهم يقفون بجانب الدولة والسلطة، ولما كان الجيش والشرطة والمباحث العامة أجهزة تقف في صف الطاغوت، ولما كانت الدولة والسلطة تقف بجانب الدول الكبرى أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا فهي موالية لليهود والنصارى ولا تتبرأ من اليهود والنصارى، ولما كانت الدولة تؤسس وتجيز البنوك المصرفية فهي تُحل الربا وتستحله، فهي دولة مرتدة وكافرة، ولما كان العلماء يُقررون أن من لم يُكفر الكافر فهو كافر، فإن جميع أجهزة الدولة وأفرادها ومن يقفون بجانبها يأخذون حكمها لذا فهم مرتدون). بيد أن دولة الخلافة المزعومة (داعش) قررت في بياناتها وكتاباتها أمرا زائدا، وهو أن الهجرة إليها واجبة على كل مسلم، ومن لم يلتحق بهم فهو يأخذ حكم المرتدين أو الكفار الأصليين مما لم يدخل في دين الإسلام بعدُ، وذلك كما يقرره سيد قطب في كتاباته وفي مرحلة الثورة الإسلامية في آخر عمره كما يقرره يوسف القرضاوي الذي جعله معذورا ومأجورا في اجتهاده في التكفير والتجهيل للمجتمعات الإسلامية، فشرعن القرضاوي برؤيته هذه الاستسهال في تبني أقوال الفكر التكفيري والتمذهب بمذهب مأجور ومعذور من يقول به، وقد غفل وسقط سقطة علمية، حيث إن القول الذي يلزم منه قتل وتدمير وضرر كبير يتفق جميع العالم على أنه ضرر محض لا يمكن قبوله واعتباره اجتهادا مستساغا، لذا فإنه لا يمكن التساهل في قبوله.
ومن خلال تبني الفكر التكفيري الداعشي الذي صعد بفكر الأغرار مراحل عليا في نزع التفكير العقلاني عن عقولهم أصبحت طرق القتل البشع للآباء والأمهات والأبناء والبنات ولذوي الأرحام أخبارا تتناقلها وسائل الاتصالات الحديثة، وكأنها من قصص الخيال التي تناقلتها الكتب القديمة في الأدب والسير والتواريخ، بيد أن تلك الأخبار أصبحت واقعا معاصرا تختلط بشاعته بأسماعنا وأبصارنا، وعند سماع تلك الأخبار وإبصارها تسرح العقول في خيالاتها وتصوراتها وطرح تفسيراتها وتعليلاتها لمحاولة فهم ما جرى من أحداث قتل وتقتيل ووقائع وحشية موجعة، بيد أن تلك المحاولات والتفسيرات والتعليلات تتخطى الأسباب الحقيقية لإشكالية حقيقة القتل والتفجير والتدمير الممارس بحقيقته وذاتيته من قبل أغرار لم تتجاوز أعمارهم عقدين من الزمن، ولم تتمرس أيديهم على كتابة فكرة وتجزئتها، فضلا عن أن تتعمق عقولهم في الخوض في فكرة أو أفكار مبدأ من جزئية قاعدة فقهية أو أصولية. إن تكييف تلك التصرفات من القتل الوحشي ومحاولة فهمها وإرجاعها إلى أسباب وتعليلات غير حقيقية هي مسائل نزاع وتنازع الأمة وقتالها وسبب كل الفتن والهرج والمرج وانتشار الفوضى عبر جميع القرون الماضية.
إن إشكالية مسائل التكفير وتطبيق أحكام الردة وفهمها فهما معاصرا والإحاطة بجميع جزئياتها وتفكيك كل تلك الجزئيات وعرضها وتعريضها للكافة، يستلزم دراسة عميقة وبكل جرأة علمية تحتمه الإشكالات الواقعية المعاصرة، لأن الضرر العام والخاص قد وقع على كل فرد من أفراد المجتمع. لذا فإنه من المتقرر في أحكام الشريعة ومقاصدها، وكذلك لدى الأصوليين والفقهاء بأن الضرر إذا ما وقع تجب إزالته وأنه لا قبول للضرر، فالتكفير هو الملاذ الحقيقي والتأسيس الصلب لجماعات التكفير والجهاد المسلح وقتال الدول ونزع الشرعية من السلطات الحافظة لأمن واستقرار المجتمعات، وعندما أصبحت مسائل وأحكام الردة الوسيلة الحقيقية لإنزال أحكام تلك الجماعات التكفيرية، وكانت أحكام الردة تنطبق على من يستهزأ ويحط من قدر دولة الخلافة المتصورة في مخيلة وعقل أغرار (داعش)، فإن ذلك الفكر المتوحش والممزوج بأفكار دينية متأصلة في جذور التاريخ الإسلامي كان ملازما لعدائه اللدود لمبدأ العقلانية، وكذلك كان ذلك المنهج التأصيلي النصي الحرفي الذي نزع كل معاني النصوص وفصلها عن سياقاتها وعطل مقاصدها الحقيقية، فأصبح تأويل تلك النصوص أمرا مستسهلا لدى جميع الجماعات التكفيرية منذ بداية نشأة جماعات وفصائل الفكر الخارجي حتى زمننا المعاصر.
إن جماعات الإسلام السياسي تستبطن تلك المعاني ولا تختلف مع الجماعات المصرحة بالتكفير والمشهرة للسلاح إلا في كيفية تنزيل المصلحة في إظهار ذلك التكفير والقتل، ومتى يكون الوقت الزمني المناسب لإنزاله على الواقع المعاصر حتى لا يتم اجتثاث تلك الجماعة. إن حالة الاستسهال للعبث بالنصوص وتركها لأولئك الأغرار عقلا وسنّا تشكلت من حالة مناوئة للعقل وجعلها مرشدا وهاديا لدراساتنا الأكاديمية، عندما تمت محاربة العقل، وتمت السيطرة على البشر بالنص الحرفي المنزوع المقاصد والمعاني، فلم يشرك العقل في فهم ثنايا النص كشرط أساسي في إعمال النصوص. تلك الحرفية جرأت الاستسهال بالقتل والتدمير، بل وصل الأمر إلى أن يتجرأ شابان غران على قتل أمهما وغفلا أن الجنة الحقيقية تحت قدميها، رحمة الله عليها، رحمة واسعة.