قد يتعجب القارئ الكريم من ضرورة وجود الملف العلاقي في القرن الواحد والعشرين، ولكن للأسف ما زال موجودا في بعض البلديات ونحن نتحدث عن إستراتيجية التحول الرقمي في الجهات الحكومية!

تلعب مشاريع الشباب الصغيرة والمتوسطة دورا مهما في تنمية الاقتصاد الوطني، خاصة في مجال محاربة الفقر والبطالة لكونها المشغل الأكبر للأيدي العاملة وتسهم في زيادة إيرادات الدولة من زكاة ورسوم وتوفير العديد من فرص العمل، ولهذا أولت المملكة اهتماما كبيرا بمشاريع الشباب، وجعلت من دعم هذه المشاريع هدفا إستراتيجيا ضمن رؤية المملكة 2030، وذلك من خلال التركيز على توفير الفرص الوظيفية للجميع عبر بناء منظومة اقتصادية تبدأ بروّاد الأعمال من الشباب والمنشآت الصغيرة.
فقد تضمنت خطة المملكة دعم المنشآت الناشئة والصغيرة والمتوسط والأسر المنتجة باعتبارها من أهم محركات النمو الاقتصادي، وعلى هذا الأساس سيتم تشجيع شباب الأعمال على النجاح من خلال سن أنظمة ولوائح أفضل وتمويل أيسر، بالإضافة إلى تفعيل دور الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة.
وبالرغم من إصرار الدولة على تحقيق تلك الأهداف الإستراتيجية في مجال دعم الشباب، إلا أنه ما زالت هناك معوقات وصعوبات تواجه شباب الأعمال على أرض الواقع، وللأسف من بعض الجهات الحكومية، والتي أصبحت من أهم العقبات أمام هؤلاء الشباب في تنفيذ مشروعاتهم الصغيرة بدلا من أن تكون داعمة لهم وفق خطط الدولة الإستراتيجية، لتدخل هذه المشاريع في معمعة البيروقراطية وتعقيداتها!
صحيح أن هناك معوقات أخرى لا تقل أهمية عن الإجراءات البيروقراطية، والتي تأتي في مقدمتها صعوبة التمويل وارتفاع الرسوم، فقد ذكرت دراسة سعودية في هذا المجال أن عنصر التمويل يمثل المعوق الأكبر والأكثر طلبا في مواجهة مشروعات الشباب والشابات، حيث مثلوا نسبة 75% من عينة الشباب والشابات. ثم تأتي البيروقراطية في الإجراءات الحكومية والتراخيص في المرتبة الثانية، فهي تعترض مسيرة أفكارهم للبدء في المشروع.
إلا أن الإجراءات البيروقراطية -برأيي- تمثل المعوق الأكبر لمشاريع الشباب، والتي عانى منها كبار رجال الأعمال قبل الشباب، وذلك بسبب أن هذه الإجراءات تمثل أحد الأسباب الرئيسية لضعف تمويل المشاريع، وذلك لعدم وجود ضمانات كافية للتمويل أو القروض الممنوحة لهم، فبسبب هذه الإجراءات يعجز الكثير من روّاد الأعمال عن تسديد المستحق عليهم من هذه القروض، وبالتالي إحجام البنوك وجهات التمويل الأخرى عن مثل هذه القروض، أو على الأقل تشديد شروط التمويل.
وللتوضيح أكثر، نأخذ على سبيل المثال الأمانات أو البلديات، وذلك لأنها تعد البوابة الأولى لتنفيذ المشاريع الصغيرة للشباب، فترخيص البلدية هو الشرط الأساسي لباقي الجهات الحكومية المختصة، والذي يتضمن قائمة طويلة من الشروط والمستندات من أهمها: الملف العلاقي في ظل عدم وجود موقع إلكتروني للبلديات لاستقبال طلبات الترخيص!
وقد يتعجب القارئ الكريم من ضرورة وجود الملف العلاقي في القرن الواحد والعشرين، ولكن للأسف ما زال موجودا في بعض البلديات، ونحن نتحدث عن إستراتيجية التحول الرقمي في الجهات الحكومية! هذا بالإضافة إلى الاشتراطات الأخرى لتقديم طلب الترخيص المتمثلة في: رسم توضيحي واضح للموقع مبين فيه اسم الحي واسم الشارع ورقم العقار، رخصة البناء (الفسح) إن وجد ويكون البناء من المسلح، ثم يحال الطلب إلى القسم الفني لتتم دراسة الطلب بصورة مبدئية من حيث مناسبة الموقع على ضوء الأنظمة واللوائح الخاصة بإقامة المحلات التجارية ومن ثم وفي حالة عدم وجود أية ملاحظات يزود صاحب العلاقة بالشروط العامة والخاصة ويطالب بتوفير هذه الشروط ومن ثم مراجعة البلدية. ومن هذه الشروط تقديم الموافقات الرسمية المطلوبة من الجهات ذات العلاقة بموضوع النشاط (الدفاع المدني، وزارة الإعلام، وزارة النقل، وزارة التجارة، وزارة الصحة، شركة الغاز، الشرطة)، وبعد مراجعة جميع الأوراق والمستندات يتم خروج المراقب الفني مرة أخرى للتأكد من تطبيق الشروط اللازمة، وهكذا.
وعلى هذا الأساس، لو فكر أحد الشباب في تنفيذ مشروع مطعم صغير على سبيل المثال بعد أخذ القرض اللازم للتمويل، فإنه يبدأ برحلة طويلة ومرهقة لاستخراج رخصة البلدية التي تخوله فتح المطعم، تبدأ بتقديم الطلب وقد تنتهي بزيارة المراقب الفني لكي يتأكد من المساحة والأمور الفنية الأخرى للموقع، ليتم ختمها بعد ذلك من الضبط الإداري، الدفاع المدني، مصلحة المياه... إلخ، وكل جهة من هذه الجهات لها قصة أخرى وسيناريو طويل من المستندات والإجراءات، والتي تجبر صاحب المشروع على التعديل والتغيير، وبالطبع فإن لكل جهة مواعيد قد تصل لأسابيع!
وبعد المعاناة الطويلة لاستخراج تصريح البلدية، والتي قد تستغرق فترة طويلة تصل من شهر إلى ثلاثة أشهر تقريبا، تبدأ معاناة أخرى لاستخراج تأشيرات العمالة، ليتم التفاوض فيما بعد مع مكاتب الاستقدام، وعلى هذا المنوال، ونلاحظ طول الإجراءات البيروقراطية فقد تصل فترة البدء بالمشروع إلى أكثر من سنة ونصف السنة من تاريخ استئجار مكان المشروع، ليبدأ الشاب من جديد من دفع مبلغ الإيجار المستحق والرسوم الحكومية ليحتاج إلى تمويل آخر أو عجزه عن سداد القرض السابق، وربما فشل المشروع برمته.
قد تتذرع الأمانات والبلديات والجهات الحكومية الأخرى بأنها تهدف من تشديد الإجراءات على الأنشطة التجارية إلى حماية المواطنين والصحة العامة، ولكن ماذا تقول هذه الجهات عن ضعف الرقابة أصلاً على الصحة العامة رغم تشديد الإجراءات المبدئية للترخيص أو التسجيل؟
هذه هي المعضلة الكبرى التي تواجه المشاريع الاستثمارية بشكل عام ومشاريع الشباب بشكل خاص، فالإجراءات البيروقراطية أصبحت عقبة كبرى أمام المستثمرين، في ظل ضعف الرقابة من الأساس، فكان من الأجدر تسهيل تلك الإجراءات من خلال منظومة إلكترونية سهلة ثم تبدأ بعد ذلك الرقابة للتأكد من الالتزام بالأنظمة والقوانين واشتراطات الأمن والسلامة والاشتراطات الصحية.