مع وجود تأثير كبير لوسائل الإعلام على مراكز اتخاذ القرار في الولايات المتحدة، إلا أن الحقيقة تؤكد أنها ليست دولة تُحكم وتدار عبر صفحات الصحف وشاشات الفضائيات
حظيت زيارة ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الحالية إلى الولايات المتحدة الأميركية، بالعديد من العلامات الفارقة التي تحمل الكثير من الدلالات، لاسيما أنها جاءت في وقت بالغ الدقة تمر به الأمتان العربية والإسلامية، وتموج منطقة الشرق الأوسط باضطرابات كثيرة. بدءا من الأزمة الإنسانية في سورية ومرورا بالحرب في العراق وأزمة الشغور الرئاسي في لبنان وانتهاء بالصراع في اليمن.
الزيارة التي سبقتها إرهاصات حاول بعض المنتفعين تصويرها على أنها إشارة لتدهور العلاقات بين البلدين، ووهن التحالف التاريخي الذي جمع بينهما منذ ما يزيد على 8 قرون، لكن ما حققته الزيارة من نتائج باهرة نسف تلك الإرهاصات نسفا، فقد استبقت واشنطن على لسان رئيس جهاز استخباراتها المركزية سي آي إيه، جون برينان الزيارة، وأعلن بكلمات واضحة لا لبس فيها براءة المملكة من أي مسؤولية متعلقة بهجمات 11سبتمبر 2001، مؤكدا أن ما أشيع عن وجود إدانة للمملكة في 28 صفحة تم حجبها من تقرير لجنة التحقيق في الهجمات، هو محض أكاذيب وافتراء.
ولم تكد تمر ساعات قليلة على هذا التصريح اللافت الذي وضع حدا للجدل الذي استعر خلال الفترة الماضية، حتى قام وزير الخارجية الأميركية جون كيري بفعل لافت أثار اهتمام الصحافة الأميركية ومراكز صنع القرار، عندما وقف عدة دقائق أمام منزله، في انتظار وصول الأمير محمد، واستقبله وأقام له وليمة إفطار في منزله الخاص، قبل عقد جولة مفاوضات موسعة تناولت كافة شؤون المنطقة، وهو كسر واضح للبروتوكول، ينم عن تقدير حقيقي للمملكة ومسؤوليها، وسبق للوزير الأميركي أن أطلق في وقت سابق تصريحا لافتا عندما قال إن المسؤولين السعوديين يعرفون جيدا كيف يحتفون بضيوفهم ويكرمون زوارهم.
بعد ذلك تبارى المسؤولون الأميركيون في إظهار اهتمامهم بضيفهم الرفيع، ولم تقتصر مظاهر الحفاوة على مسؤولي الإدارة الأميركية وحدهم، بل شملت حتى سيناتورات الحزب الجمهوري، حيث كانت زيارة الوفد السعودي إلى مجلس النواب الأميركي حافلة وخصَّصت المؤسسة التشريعية ذلك اليوم كاملا للوفد السعودي. وكانت قمة التكريم عندما استقبل الرئيس باراك أوباما ولي ولي العهد وعقد معه اجتماعا مطولا في المكتب البيضاوي وهو المخصص للقاء زعماء الدول، ولم يحدث أن التقى فيه رئيس أميركي إلا برئيس دولة، مما مثَّل كسرا آخر لقواعد البروتوكول، من قبل دولة توليه أهمية قصوى.
ما أردت الإشارة إليه من تلك التوطئة هو تأكيد أننا دولة نحظى بتقدير الآخرين، وإن اختلفنا معهم، والاختلاف في وجهات النظر بين مسؤولي الدول هو شأن عادي، وتباين الرؤى الحالي مع الولايات المتحدة ليس هو الأول من نوعه، ولن يكون الأخير، طالما أننا نحرص على أن تكون العلاقة بين الجانبين قائمة على الندية، وليست علاقة اتباع وتبعية، فالمصلحة تقتضي التفكير، وهذا بدوره يؤدي إلى تقدير المواقف واتخاذ القرارات. ربما تغلب على البعض منا طبائعنا الشرقية وطريقة التربية، وتصور أن الاختلاف في وجهات النظر لا بد أن يؤدي بالضرورة إلى الخلاف والتنازع واتخاذ المواقف المقابلة، لكن السياسات بين الدول لا تبنى على هذا الأساس، ولا تقوم على الحدة، بل تحكمها قواعد معينة، منها المصلحة المشتركة وتجنب الإضرار بالآخر، وعدم التدخل في شؤون الغير، وبالمقابل الحرص على منع تدخله في شؤوننا.
ومع عدم الركون إلى نظرية المؤامرة وتعليق الأخطاء على مشاجب الآخرين، إلا أن هناك دوائر معينة أرادت تصوير الخلاف على غير حقيقته، ومحاولة النفخ عليه حتى يؤدي إلى اشتعاله، وكثيرا ما نشر كُتَّاب أميركيون محسوبون على اللوبي الإيراني الذي بدأ ينشط في الولايات المتحدة، عن وجود ذلك الخلاف، ومحاولة تضخيمه، وتصويره على أنه وصل نقطة اللاعودة، إلا أن تلك المحاولات الساذجة لم ولن تنجح، استنادا على عدد من المعطيات، في مقدمتها أن العلاقة بين الدولتين تدار بطريقة حكيمة، وتتحكم في مفاصل قرار الدولتين جهات ذات كفاءة ومراكز استشارات وإحصاءات متخصصة. ومع وجود تأثير كبير لوسائل الإعلام على مراكز اتخاذ القرار في الولايات المتحدة، إلا أن الحقيقة تؤكد أنها ليست دولة تُحكم وتدار عبر صفحات الصحف وشاشات الفضائيات، وهي الدولة الرائدة التي تقود العالم، وتدرك بالضرورة أن علاقاتها مع المملكة هي علاقات فريدة، استندت منذ قيامها على قواعد ثابتة ومتينة، وأن السعودية تبقى أكبر حلفائها في المنطقة.
مهمتنا التي يجب أن نوليها الأولوية والأسبقية هي كيفية الاستفادة القصوى من الرصيد الإنساني والأخلاقي الذي نتمتع به، ومن السيرة الجيدة التي تركناها في التعامل مع الآخرين، ونظرة التقدير التي يحملها لنا الآخرون، استنادا على سياستنا الواضحة في التعامل مع الآخرين، فالمملكة هي كبرى دول العالم العربي، ولها خصوصية فريدة للمسلمين عبر العالم، ولم يسبق أن أدينت بفعل يتناقض مع قواعد المجتمع الدولي، وهي أكبر الدول المانحة التي تتبرع للجمعيات الخيرية والمنظمات الإنسانية، وهي صاحبة السياسة الخارجية الثابتة التي تقوم على قواعد حسن الجوار.
وليس خافيا على أحد الجهود التي بذلتها الرياض في سبيل نزع فتائل الأزمات في المنطقة، وما قامت به من جهود للتوسط بين الفرقاء في دول العالم الإسلامي، كما حدث في مؤتمر الطائف للم شتات اللبنانيين، ومحاولات التقريب بين فرقاء فلسطين، والسعي إلى جمع العراقيين على قاعدة المواطنة. وغير ذلك من المبادرات في أفغانستان وغيرها من دول العالم الإسلامي. والسعي لاستئصال آفة الإرهاب من المنطقة، وتشجيع الحوار بين أتباع الديانات السماوية. وكل هذا رصيد أخلاقي وإنساني كبير يمكنه تحقيق العديد من المكاسب والفوائد إذا أحسننا استغلاله بالصورة المثلى، فهل نحن فاعلون؟