هناك تداخل واضح بين التاريخ والسوسيولوجيا، فوظيفة الأخيرة وصف الحياة الاجتماعية من منظور سوسيولوجي في أزمنة محددة، والماضي هو أحد اهتماماتها

يتوق هذا الحديث للمشاركة في كشف القوانين التي تحكم ثنائية التقدم والتراجع، وبخاصة تلك التي كان لها دور رئيسي في سقوط حضارات وقيام أخرى جديدة، من خلال إعادة تركيب المفاهيم، بما يتفق مع الواقع الراهن.  الجغرافيا علم قديم، يُنسب الفضل في تأسيسه إلى الإغريق. وقد عرف في أول الأمر بأنه وصف الأرض. إلا أن هذا التعريف جعل من الجغرافيا علما وصفيا، يفتقر إلى الربط والتحليل.
لقد اكتفت العلوم الجغرافية القديمة بالوصف القائم على سرد الحقائق والمشاهدات، وكان هناك تصور بأن الجغرافي هو من يقوم برسم الخرائط بناء على رحلات يقوم بها بذاته إلى أرجاء المعمورة من سطح الأرض، يسجل خلالها مشاهداته المختلفة. وقد تطور هذا المفهوم لاحقا خلال فترة الكشوف الجغرافية، إذ ربطت الجغرافيا باكتشاف الأجزاء المجهولة من سطح الأرض.
في القرن الثامن عشر، انتقل علم الجغرافيا إلى مرحلة جديدة، فأخذت دراساته تهتم بمعالجة العلاقات المتبادلة بين الظاهرات المختلفة، ومحاولة الربط بينها، وجرى توصيفه بأنه العلم الذي يدرس سطح الأرض، على اعتبار أنه ميدان الحياة البشرية، وما عليه من ظاهرات طبيعية وبشرية. ووفقا لهذا التعريف أصبح الجغرافيا علما مركبا من ظواهر طبيعية وأخرى بشرية. وكانت المدرستان الأميركية والإنجليزية، ولفترة طويلة من الزمن، قد عرفتا الجغرافيا على أنه العلم الذي يدرس العلاقة بين مختلف الظواهر الجغرافية الطبيعية، ثم تطور هذا التعريف لاحقا ليشمل تناول الاختلافات الإقليمية في الظاهرة الواحدة إلى الظاهرات الجغرافية مجتمعة: أشكال سطح الأرض، المناخ، النبات.
أما المدارس المعاصرة، فقد عرفت الجغرافيا بأنها التباين الأرضي، أي التعرف على الاختلافات الرئيسية بين أجزاء الأرض على مختلف المستويات، وقد أدى ذلك إلى الاهتمام بالعلاقات القائمة بين الظواهر الجغرافية. وتؤثر هذه القراءة أن تنطلق من رؤية ديناميكية لمفهوم الجغرافيا. ولذلك فإنها تهتم بدوره في تحديد شخصية المكان، وتحوله من مجرد علم جامد إلى ريشة بيد فنان، ذلك لأن العلاقة بينه وبين الإنسان ليست ساكنة أو أحادية الجانب، بل هي علاقة جدلية، بمعنى التبادل والتكافؤ. ولذلك ترى في الجغرافيا رابطا بين العلوم الطبيعية ومختلف العلوم الاجتماعية.
أما التاريخ، ووفقا لتعريف دائرة المعارف البريطانية، فإنه العلم الذي يستخدم للإشارة إلى الأفعال التي شكلت مجتمعة ماضي الإنسان. وأيضا القيمة التي يعطيها المؤرخ إلى البحث عن الماضي كما وصل إلينا.
والمؤرخ هو الذي يتولى تدوين التاريخ، ويمد بما يتوافر من معلومات عن الزمن الغابر، إلا أننا في الغالب لا نميز، عند قراءتنا للتاريخ، بين شيئين مختلفين: مجموع أحوال الكون في زمان غابر، ومجموع معلوماتنا حول تلك الأشياء.  والتاريخ العام، هو مجموع الأحوال التي عرفها الكون حتى اللحظة، أما ما هو مدون لدينا، فهو مجموع ما تمكن الإنسان من اكتشافه وتدوينه، وهذا يعني أن هناك فارقا كبيرا بين ما هو حقيقة وما هو مدون. ولذا، فإن من الأهمية أن يستمر النضال الإنساني المعرفي لتحقيق التطابق بين الواقع والمعلوم.
ويرى بعض الدارسين لمادة التاريخ، أن شرط كتابته هو ألا يكون الباحث جزءا من اللحظة التاريخية للحدث، ذلك لأن معايشة الحدث تعطي دورا، والدور لا يقوم إلا على موقف، والموقف لا يتأتى إلا عن اقتناع، والاقتناع يستند على رأي، والرأي بدوره انحياز، وهو ما يناقض الحياد الذي يفترض أن يكون أحد الشروط الموضوعية في إصدار الحكم التاريخي، ومثل هذا التصور يحمل في طياته دعوة لنبذ الذات. وكان فلاسفة اليونان هم أول من اهتم بمحاولة وضع قانون لحركة التاريخ، وربط علم التاريخ بالفلسفة. فقد اشتهر عن هرقليطس رفضه فكرة أن التاريخ يعيد نفسه، وعرفت عنه مقولته الشهيرة إنك لا تستطيع أن تسبح في نفس ماء النهر مرتين.
ويعتبر العلامة ابن خلدون أول من وضع منهجا نظريا متكاملا لتفسير التاريخ، مشيرا إلى أن الظواهر الاجتماعية وحوادث التاريخ لا تأتيان من فراع، ومؤكدا في الوقت ذاته على أهمية وعي خصوصية البيئة التي نشأت فيها الحادثة. ومن خلال هذه الرؤية، عزا ابن خلدون سلوك الناس وطريقة حياتهم إلى نوعية الوظائف التي يشغلونها في مجتمعهم، والتي تلبي حاجاتهم.   ومن هنا، نلاحظ التداخل الواضح بين التاريخ والسوسيولوجيا، ذلك أن وظيفة الأخيرة هي وصف الحياة الاجتماعية من منظور سوسيولوجي في أزمنة محددة، والماضي هو أحد اهتماماتها.
كما أن هناك تداخلا واضحا بين علم التاريخ وعلوم الطبيعيات، والفرق هو أن الأول يدرس الأحداث الفريدة، بينما يدرس الثاني الحوادث المتواترة، وقد انطلقت المدرسة الكانطية من موقف أكثر دقة، حين أشارت إلى أن الفرق بين عالم التاريخ وعالم الطبيعة في أن الأول يدرس شؤون البشر، والثاني يدرس أمور الطبيعة، وبأن عالم التاريخ يدرس المتحول، أما عالم الطبيعيات فيدرس الثابت، ذلك لأن عالم الطبيعة يدرس الخاص في عموميته، أما عالم التاريخ فيدرس الخاص في خصوصيته. على أن مثل هذا التحليل يفترض الثبات في الطبيعة، ويغيب عنه الأثر الذي تحدثه في شؤون البشر، إن حادثة طبيعية كبرى كالأعاصير والزلازل والكوارث، يمكن أن يكون لها تأثير كبير ومباشر على التركيبة الديموغرافية في مجتمع ما، ولربما أسهمت في انتقال هذا المجتمع من حال إلى حال آخر.
في هذا السياق، يرى عبدالله العروي أن مفهوم التاريخ لا يمكن أن يحقق تميزه إلا إذا انحاز إلى الوعي وحل كله فيه. لا يكتسب المجتمع التقليدي فكرة التاريخ في إطار الدعوة التاريخانية، إلا إذا تجاوز التغيير مستوى المناهج ليشمل الفلسفة والتجربة الوجدانية. لا يكفي أن يقلد المجتمع التقليدي، لأن في ذلك مجرد إبدال تقليد بآخر، بل يجب أن يمر هو نفسه بتجربة هؤلاء جميعا، ويكتشف بدوره كشفهم الأساسي، أي إبداعية الإنسان وإنسانية الأخبار.