القديم لا يمكن أن يقاوم الجديد، حتى (داعش الجديدة) نراها حطمت كل ما هو قديم ماديا ومعنويا، حتى التماثيل تسعى إلى تحطيمها في كل مكان، إنها وفية للحداثة بامتياز أكثر من وفائها للصحابة الكرام الذين لم ينشغلوا بهذه التماثيل

معظم القراءات التي تناولت الحداثيين والإسلاميين تعاملت معهم على أنهم نوعان مختلفان، بينما قد يحتمل النظر وجهة أخرى، فعند التأمل الميكروسكوبي للقضية نكتشف أن الإسلاميين منتج حداثي بامتياز، لنتأمل بعض خطب الجمعة عندما تتحدث عن صيام رمضان، ليعطي الخطيب ربع الخطبة لفضل الصيام بالمعنى الشرعي، ولكنه يضع ثلاثة أرباعها لشرح أهمية الصيام بالمعنى الحداثي (مفاهيم الدايت، مصطلحات طبية، اكتشافات علمية)، لأنه وإن لم يشعر يعيش مفاهيم الحداثة حتى داخل نيته في الصيام، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا مشغولين بأثر الصيام على الصحة على المستوى الإكلينيكي، أم مشغولين بالحالة التعبدية فقط، مع تفاصيل تخص العاجز وكفارته.
الإسلاميون منتج حداثي كأي منتج حداثي قابل والتشكل حسب آخر خطوط الموضة، ولأنهم منتج حداثي فمن الطبيعي أن يناكفوا الحداثيين طيلة هذه السنين، وسيناكفونهم مستقبلاً لكن باسم مختلف، لنلاحظ النوادي الأدبية وكيف تناغم معها الإسلاميون، ولو نشطنا الذاكرة قليلاً لاستعدنا البيان الغريب الذي أصدره بعض الشيوخ تحت مسمى (بيان المثقفين) متخلين عن لقب (علماء دين) أو حتى (طلبة علم).
بل حتى (داعش) منتج حداثي، فاستدماجهم للتقنية كمنتج حداثي يفرض أجندة في الواقع تحيط بهم من السلاح الأميركي والروسي الذي يقاتلون به مروراً بالسيارات التي يركبونها بدلاً من البغال والحمير، إنهم يقاومون كل ذلك على مستوى اللغة/ القاموس فقط، فيملؤون واقعهم بمفردات تراثية تبدأ بكنية أبي القعقاع وأبي البراء مروراً بتجارة اللحم الأبيض وفق منطلقات تتقاطع كثيراً مع أحدث معطيات شبكات الدعارة العلنية، ولكن يقاومونها أيضاً على مستوى اللغة فقط، وذلك بجعلها تحت مصطلحات (السبايا والجواري).
الإسلاميون منتج حداثي، ولهذا لو نظرنا إليهم وفق لعبة (الاقتصاد الإسلامي) التي تعتبر دائرة صغيرة وسط الدائرة الكبيرة المسماة (الرأسمالية) لرأينا مستوى التقاطع ما بين الإسلاميين والرأسمالية، فكيف لو أعدنا النظر إليهم وفق ثقافة الوفرة التي عاشوها.
الإسلاميون منتج حداثي، وعلى الحداثة والحداثيين النظر إلى هؤلاء الإسلاميين وفق معايير الحداثة، وليسوا خارجين عنها، إنهم ظاهرة خاصة بالحداثة، وليسوا تراثيين حقيقيين ومخلصين لهذا التراث، لأنهم لو كانوا كذلك لانقرضوا، تخيلوا الهندي الأحمر يصر على مقاومة الرجل الأبيض بالفأس والسكين، هل يستطيع البقاء، لقد بقي ولم ينقرض لأنه قبل أن يقايض ويتعامل مع عدوه في سبيل بعض الأسلحة الحديثة من الرجل الأبيض، متناسياً أن فكرة (حاجته لسلاح الرجل الأبيض) تعني إرهاصات مصيره المستقبلي، كل الأوفياء لتقاليد الهنود الحمر أصبحوا خارج التاريخ في محميات برية، وكل هذا لا ينطبق على الإسلاميين، فليسوا أوفياء للتراث كوفائهم للحداثة، لأنهم يعيشون عطش الحداثة للتغير، دورهم فقط هو في الممانعة التي تفرزها الحداثة في كل بلدان العالم، ولهذا عاشت المرأة محرومة من مواصلة تعليمها في بعض أوروبا قبل ما يزيد على مئتي سنة تقريباً بنفس حجج الممانعين عندنا.
حتى النظام الإيراني كنظام ثيوقراطي، يعيش ممانعته وحداثته أيضاً، يحكي أحد الهاربين من الثورة الإيرانية عن أحد الفنادق الشهيرة في طهران أيام الشاه، والتي كانت تسمح بالبغاء وفق شروط صحية وتنظيمية خاصة، وقد جرى إغلاقها مع بدء الثورة ليتم افتتاحها بعد حين لتكون مركزاً للزواج الإسلامي الخاص بالمتعة، وعليها قس.
القديم لا يمكن أن يقاوم الجديد، حتى (داعش الجديدة) ومن زاوية نظر (مقعرة لكنها مهمة) نراها حطمت كل ما هو قديم ماديا ومعنويا، حتى التماثيل تسعى إلى تحطيمها في كل مكان، إنها وفية للحداثة بامتياز أكثر من وفائها للصحابة الكرام الذين لم ينشغلوا بهذه التماثيل رغم مرورهم بها، وعندما تهدأ ثورة داعش فإنها ستتفاجأ بأنها لا تملك مشروع دولة يتناغم مع العالم الحديث، فإما أن تبقى مجرد محراث يعمل على تقليب التربة ومن عليها لمصلحة الحداثة من جديد، أو تهدأ لتتحول إلى جزء أصيل في الحداثة نفسها.
الحداثة ليست حتمية لكن التغير حتمي، لا لأنه قدر لازب بل لأنه ضرورة، ومن هنا تلعب الحداثة على مجال النظر الإنساني ليخرج علينا المنظرون بنهاية التاريخ، وصراع الحضارات، والخطير في تفتيت (حداثة الإسلاميين) هو (ما بعد الحداثة) كثقب أسود سيمتص الإسلاميين تماماً، لأنه يعطي وهم القدامة المغري وهو يضغط هذه القدامة لتصبح حالة ذرية فردية مفككة تحاول الصراخ في وسط جموع من كل لون تصرخ أيضاً وبنفس القوة، ليبدأ قانون التعددية يفرض نفسه حتى على الحداثيين المزيفين الذين يراهنون على لعبة الصوت الواحد بالمفهوم الشمولي، سيتفاجأ الشيخ المتزمت أنه أصبح نجماً مشهوراً له أتباع ومحبون يتابعونه بحماس أقل مما يتابعون رونالدو، وينقلبون على الشيخ حيناً ليعاملوه بقسوة كما ينقلبون على مطربة أو فنان يتابعونهما أيضاً، لتتفكك مسائل النفوذ الخاصة برجل الدين على الوجدان الشعبي من نفوذ (هيمنة وفاعلية كرمز) إلى نفوذ (نجم سوبر ستار) كأي منتج حداثي آخر تجده في الإعلام الحديث، وعليها قس وصولاً لما هو أبعد من رجل الدين.
الصراع سيكون حداثياً حتى في كل شيء تنتجه الحداثة، الحداثيون عندهم فيديو كليب، الإسلاميون عندهم فيديو كليب أيضاً، ويبقى السؤال: فماذا نسمي كل هذا التاريخ الطويل من الممانعة؟ هناك ممانعة فطرية أصيلة في بدائيتها، ومن طبيعتها الانقراض لأنها نتيجة الطابع البدائي للناس، وكل هذا قبل اكتشاف النفط، وهناك ممانعة حداثية أفرزها ما بعد النفط، الممانعة الفطرية كانت تنطلق من بيئة بدائية تخاف التغيير جهلاً بمصالحها ويمكن احتواؤها وتوجيهها بل وتصفيتها إن لزم الأمر، أما بعد النفط فالممانعة في بنيتها الحركية (مزيج من رجال أعمال ورجال دين) تتكئ على امتيازات تخاف عليها وليست جاهلة بمصالحها، تقتني أفضل السيارات والأجهزة والمنازل المليئة بالجبسيات والرخام وتتعامل مع البنوك لتحصل على بطاقات فيزا مع امتيازات العميل المميز، وتغلف كل ذلك بلعبة اللغة حيث القاموس التراثي الذي لا ينضب، والكلام المجاني الذي لا ينتهي، إنها منتج حداثي حقيقي حقق شرط الحداثة حتى في دلالة كتاب (الحداثة في ميزان الإسلام) ليضع الإسلاميون أنفسهم معيار الإسلام متجاهلين مليار مسلم ليطرح الواقع عنوانه الحقيقي: (الإسلاميون في ميزان الحداثة)، ليعيش الحداثيون طبيعة الثبات في الرؤية، ويتنكب الإسلاميون التحول والتغير كي يدركوا ما فاتهم، والسبب أن الحداثي أمسك بالثابت في المقاصد والقيم الإنسانية عن المتحول في الآراء الفقهية، فلم يتغير وبقي الإسلامي يركض وراءه دائماً تحت عنوان (تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان)، لأن الإسلامي كان يكابر بأن خطابه لا تاريخي ليرتطم بالواقع فكان هو وخطابه من تحول إلى تحول، وعليه فمن حقنا أن نعيد السؤال على أنفسنا من جديد: هل الصراع طيلة نصف قرن في حقيقته بين إسلاميين وحداثيين، أم بين براغماتيين تقليديين وانتلجنسيا ناشئة لطبقة برجوازية رخوة؟.