خلال التاريخ الإسلامي، كثيرا ما استقر سلاح تهمة الردة في أيدي أولئك الذين يطعنون به وينفون ويطاردون كل عالم ومفكر، وحتى كل جاهل أرعن لم يعجبهم قوله

 للإفتاء والنطق بالحكم؛ أهله، ولعامة الناس طرح الأسئلة حول كل أمر فيه إشكال عليهم، وما السؤال الذي يطرح إلا دليل على فضول لم يرو بعد، وحاجة للمعرفة لم تستكن، وإشكالية لم يحسم أمرها، بل أظن أن معظم الإشكاليات عموما، والدينية منها تحديدا، لن تحسم أبدا لتبقى محل أخذٍ ورد إلى أن يشاء الله، هذا يدلي برأي يراه صوابا وذلك يدلي برأي مختلف تماما ويراه أيضا صوابا، وآخرون لا عمل لهم إلا التشكيك في كل الآراء، ليستمر الجدل الذي تتجلى أعظم الغايات منه في إثراء المعرفة.
ولا شك أن المعرفة الإسلامية معرفة ثرية، ولثرائها عدة أسباب، أهمها هو هذا التنوع والاختلاف الهائل في الآراء والأفكار والمعتقدات التي أسهمت في نشوء مذاهب وطوائف وتفرعات في كل اتجاه، ورغم هذا التنوع الهائل إلا أن كل هذه المعرفة في آخر المطاف لم تفقد صفتها الإسلامية، والمتأمل في هذه المسألة سيلحظ في مرحلة ما أن المعرفة الإسلامية أكثر رقيا وتسامحا، بل وأكبر قدرا مما تحمله صدور كثير من المسلمين وقناعاتهم، ودلالة رقيها وعلو قدرها أنها لم تصل إلى هذا الثراء إلا عبر السير فوق الأشواك، أشواك غرسها المسلمون أنفسهم في طريق المعرفة بحجة البحث عن مرضاة الله!.
وليس من باب المبالغة القول، إن الأشواك لم تستثنِ عالما مسلما ولا مفكرا أو صاحب رأي إلا وأصابته، بعضهم نجا من الأشواك بصعوبة بالغة، وأكثرهم لقي حتفه فعليا، هنالك من سُجن وعُذّب، وهنالك من قُتل بلا مقدمات، وهنالك من ذاق الأمرّين إلى أن تمنى الموت، وكل قاتل وسجّان كان يبحث عن مرضاة الله بطريقته الخاصة، وحسب مفهومه ومفهوم جماعته، كل ظالم قد آمن بأن الحق في صفه ووفق ما يعتقده هو وأن مخالفه حتما على ضلال، وفي تاريخنا، وربما لأن السير في طريق الحوار طويل ومرهق، فقد حضر العنف حلا سريعا لإرساء الحق وفرضه!
فما هذه الأشواك؟! عن ابن عباس –رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فاقتلوه، ورغم اختلاف العلماء وتنوع آرائهم حول هذه المسألة، إلا أن الإشكالية ليست في اختلاف العلماء ولا في الحديث -معاذ الله- الإشكالية حين يتم التعامل مع كل مخالف وكل من يأتي برأي غير مستساغ أنه مبدل دينه ويجب قتله، هذه هي الأشواك، أن تعتقد كل جماعة أنها الممثل الشرعي والوحيد للإسلام، والجماعة التي تعتقد بهذا تمنح نفسها سلطة الحكم بالنيابة عن الله والنطق باسمه والقتل والسجن لمرضاته.
طبعا، أنا أعرض هنا إشكاليات فقط، وإلا فللإفتاء أهله، وللنطق بالأحكام أهله، أهل الإفتاء علماء أجلاء متمكنون، لم يجمعوا في مسألة حد الردة على رأي واحد، أما من أجمع منهم على وجوب قتل المرتد، فقد وضعوا لمثل هذا الحكم ضوابط وشروطا صارمة، لعلمهم أن هذا السلاح خطير جدا ولا يجب تركه في أيدي الصبيان يلعبون به، ويطعنون على الشبهات والنيات، ولمجرد فرض الرأي، والمؤسف أنه وخلال التاريخ الإسلامي، كثيرا ما استقر هذا السلاح في أيدي أولئك الذين راحوا يطعنون به، ويسجنون وينفون ويطاردون بالعصي والحجارة كل عالم ومفكر، وحتى كل جاهل أرعن لم يعجبهم قوله، وحجتهم الجاهزة دائما وسهلة الاستدعاء، هي أن مخالفهم مرتد وجب قتله!
لقد سقط الدكتور مصطفى محمود بداية حياته في الشك إلى أن عبره ووصل إلى اليقين، وأصبح مفكرا إسلاميا معروفا، فلنفترض هنا أن أحد الغيورين على الدين اعترض الدكتور في بداية سقوطه وطعنه بسكين، أو رفع عليه دعوى في المحكمة، وتم إصدار حكم القتل في حقه ونفذ فعلا! فهل كان الدكتور سيصل إلى اليقين أم سيموت على الشك؟ وهل كنا سنترحم عليه اليوم ونتزود مما أسهم به أم سنكتفي باللعن وتخويف أبنائنا من السير في هذا الطريق؟ ماذا لو نُفذ فيه وفي آخرون غيره حكم الردة؟ بل ماذا عن الذين نفذ فيهم الحكم فعلا؟ إن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وليس الأمر منوطا بمشيئتنا نحن حتى نشاء ألا يضل هذا وألا ينحرف الآخر إلى أن يموت أو سيقتل!
لست هنا للاعتراض على حكم الردة، ولكن لوضع علامة تعجب حول اتخاذ هذا الحكم عنوانا بارزا لإلجام المخالفين، وعلامة تعجب أكبر حول تنحية الحوار رغم أنه العنوان البارز في القرآن، لماذا بات اللجوء للمحكمة ورفع دعوى على من لا يستساغ منه رأي بات أسهل من اللجوء للحوار والنقاش بالحسنى؟ لماذا يجر من يظن في قوله الكفر إلى السجن ولا تتم دعوته لإجراء حوار علني حتى يتراجع عن قناعة لا عن خوف؟ ثم ماذا عن الجمهور، في هذا الجمهور العريض من تساوره الشكوك وتداهمه الإشكاليات، فيأخذ بكل ما في نفسه من وساوس للأزقة المظلمة، وفي الأزقة المظلمة تتمدد الضلال ولا تنكمش، أم أننا لا نهتم بما في نفس الإنسان طالما هو يطل علينا بالمظهر الذي نرتضيه؟