استمعت لكلمة ألقيت في أحد المساجد العامرة بذكر الله عن تعظيم الوقت، والحثّ على وجوب تداركه، واستغراق ساعاته فيما يعود على العبد بالفوائد الحميدة.
وقد جلل الواعظ كلمته تلك بنقولات متنوعة عن عناية بعض العلماء بالوقت، وتوجّعهم على كل لحظة تمضي من أعمارهم، وتتصرم من أوقاتهم في غير الاشتغال بتصنيف الكتب، وجرد المطولات!.
أحببت أن أشير ابتداء إلى أمور هامة تتعلق بانتقاء النقولات عن أهل العلم في مثل هذه المواعظ، ونوع الخطاب الذي ينبغي أن يتخيره المذكّر في وعظه عامة الناس.
الواجب على المذكرين والوعاظ أن يهتموا في كلماتهم ومواعظهم برعاية أحوال المخاطبين، ومعرفة قدرهم على فهم الخطاب وعقل المراد، فإن معرفة المستوى الفكري، والمرتبة العلمية للشريحة المستهدفة بمثل هذه الكلمات، أمر عظيم ينبغي التفطن له، حتى يستطيع الناصح والمذكر إيصال الرسالة إلى الناس بخطاب يسير وواضح، لا تنطع فيه ولا تشدد.
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخاطب أمته بخطاب لا يغلق أبواب لطف الله وسعة رحمته دونهم، بل كان يقول لأصحابه -رضي الله عنهم- في مناسبات كثيرة بشروا ولا تنفروا.
وفي دعوة ذلك الواعظ للسامعين أن يعانوا ألم ذنب لم يقترفوه! وخطيئة لم يرتكبوها! وهي تصرم الأعمار ومضيّ الأوقات، وأن يجعلوا العمر كله طاعة، وهذه المطالب غير ممكنة ولا سبيل إلى تحقيقها، ولا يتيسر لأحد منهم القيام بها، فإن لم يكن هذا الخطاب نوعا من التنفير والتشديد على الناس، فلا أدري ما هو التنفير!
فقد قال صلى الله عليه وسلم لمن عاهده على ملازمة القيام بالفرائض وعدم التفريط في شيء منها: أفلح إن صدق!
مقصودي أن عامة الناس لا يصلح لهم مثل هذا الخطاب الذي يباعدهم -بهذا التنظير العسر الذي لا يمكنهم تطبيقه- عن الخير، ويزرع في نفوسهم اليأس من الصلاح، والقنوط من تحقيق الاستقامة، بمطالب مستحيلة غير ممكنة، لم يكلفهم الله بها، ولم يدعهم إلى المسارعة لأجلها. فإن هذا الواعظ يطالبهم بالعناية بتدارك نفائس الأوقات، وأن تكون ترجمة ذلك التدارك الدعوة إلى النياحة على الدين وعلى الأوقات وعلى الناس وعلى الساعات التي تقضّت في الأكل والشرب، وينهى الحاضرين في طيّ كلامه عن تضييع أوقاتهم في أكل اللحم! ويدعوهم بأسلوب متوجّع إلى سف الكعك الكيك، لئلا يضيعوا شيئا من أنفاسهم في تقطيعه ومضغه! ونحن وهذا الواعظ في حقيقة الأمر نسفّ المفطحات في مجالسنا ومنتدياتنا، ثم يقوم هداه الله باستنهاض همم الحاضرين لترك الأكل باليد، ويرشدهم إلى أن يُنيب أحدهم أخته عنه لتلقّمه الأكل حتى لا يضيع عليه شيء من وقته النفيس!
وهذه المنقولات التي انتقاها هذا الواعظ والقصص التي حشدها من بطون التراث، تدل على أن هناك مشكلة في بعض الكلمات التي تُلقى في مساجدنا، والتي يُترك لبعض الوعاظ الجهلة المتعالمين أو المتنطعين القيام بإعدادها، وجمع مادتها. فإن كتب علماء الإسلام تشتمل على رقائق وزواجر مبناها الأساس على ما ورد في كتاب الله وصح في سنة النبي، صلى الله عليه وسلم، هذه المواعظ تراعي عقول الناس وبيئاتهم ونفسياتهم، وتشتغل بالممكن والمقدور عليه، فلماذا يتم العدول عنها، والبحث عن مواطن الحرج والعنت والمشقة على الناس في بطون الكتب والمصنفات؟!
مثل هذا الخطاب الغليظ، والذي لا يعرف شيئا عن فسحة الدين وسماحته ويسره، كما أن هذه التصرفات الخاصة المنقولة عن بعض العلماء والعباد التي استدل بها على اهتمام من ذكرهم بالوقت، وخشيتهم من تصرم الأعمار في غير مطالعة الكتب وغير ذلك من الأحوال، هي حالات نادرة، والنادر لا حكم له، فالواجب علينا نقدها والوقوف عندها بالريبة والحذر. فهي ليست من سنّة النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا من هديه حتى يُطالب الواعظ الناس بها. كان بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم يأكل بيده، وكان يأكل اللحم ويتمتع بالطيبات التي تستسيغها نفسه ولا يرى حرجا في ذلك، وكما في حديث أنس -رضي الله عنه- أنه كان يتتبع الدباء في الصحفة يحبها، وكان يحب الحلوى والعسل كما في الصحيح.
وفي هذا الزمان الذي ارتفعت فيه رايات الغلو في التكفير، والحكم على مجتمعات المسلمين بالردة، والمروق من الدين، والتقنيط من رحمة الله، ينبغي علينا مقابلة هذا الخطاب الأسود بخطاب وسطي يرغب في الآخرة، ويشوق إلى العمل الصالح، ويقترن بذلك قيامه على ركنيي التبشير برحمة الله، والتيسير على عباد الله.
وألا تُترك الدعوة إلى التيسير لبعض المراهقين فكريا، الذين يزعمون أنهم الممثل الصحيح والمتحدث الرسمي باسم الدين، وأنهم وحدهم من يُحسن الدعوة إلى التبشير، ويقدر على الكلام عن التيسير.