سألتها: هل يتحرش بك أحد؟ قالت وهي تبتسم بثقة: أبداً لم يحدث ولو حدث فسيتم القبض على المتحرش خلال ثوان معدودة. لاحظت سقف وجنبات المركز وشاهدت عشرات الكاميرات وعرفت لماذا تحدثت الفتاة إلينا بهذه الثقة

حرب فتوى الكاشيرات دارت رحاها في المجتمع وما زالت محل جدل واسع. هذه الحرب أتت بسبب الخوف من النتيجة نظراً لغياب الأصل. الأصل هو عدم وجود القانون الصارم الذي يحفظ حقوق العاملين والمواطنين بشكل عام عند التعرض للتحرشات. تلك الحرب لم تكن لتقع لو أن الموضوع كان يتناول عمل المرأة من حيث المبدأ. كلنا يدرك حتى أعضاء اللجنة الدائمة أن الزمن المعاصر والحاجة يفرضان أجندتهما، وحاجة الناس للبحث عن فرص العمل لم تعد قاصرة فقط على الذكور. ولو أن المجتمع يعيش تحت طائلة القانون والمحاسبة الصارمة لكل من يقدم على التحرش سواء ذكراً كان أم أنثى لما وجد سائل يستفتي هذه اللجنة وبالتالي لا جواب، أي لا فتوى. غياب القوانين الصارمة ضد التحرش يذكرني بقصتنا الحزينة مع السرعة في قيادة السيارات والموت الذي صاحبها ولا يزال. الأمل اليوم معقود على نظام ساهر الذي بدأ للتو يؤتي ثماره. فهل سنستمر في هذه المناقشات البيزنطية حول عمل المرأة خوفاً عليها من المضايقات ونضعها هي الضحية ونحرمها من الكسب الحلال الحر متجاهلين لب القضية؟ لا أتمنى ذلك ولو أن المرور والسرعة كتجربة لا تشجع على الأمل قبل تطبيق ساهر. إنني متأكد أنكم لم تنسوا بعد استجداء المرور للسائقين بعدم تجاوز السرعة وأن السرعة قاتلة وأن كذا وكذا، كل ذلك لم ينفع. حتى إن السرعة قد دخلت أروقة الإفتاء وأفتى حولها سماحة المفتي العام على ما أذكر ولكن بلا جدوى ولم ينفذها أي سائق قبل تطبيق النظام المذكور. لم أجد أبلغ من المقال الذي كتبه الدكتور محمد عبدالله الخازم في صحيفة الرياض (الاثنين 8 نوفمبر 2010م) عندما تناول هذه القضية ووضعنا بعجالة وسط مجتمعات أكثر منا تقدماً وإنتاجاً وتتولى مكافحة التحرشات بكل مهنية. عندما أشاهد الوضع المحلي فإنني لا أجد من هذا شيئاً. التحرش لدينا قائم ووسيلتنا الوحيدة لمواجهته هي فرض المزيد من الإجراءات على المرأة. لا يتحدث أحد عن الرجل المتحرش. الشرطة أصلاً لا تعلم كيف تتعامل مع هذه القضايا إذا لم تأت إليها من هيئة الأمر بالمعروف. الهيئة كما نعلم لا تستطيع وحدها متابعة هذا الملف، وهو ملف إجرامي وليس أخلاقيا أو منكرا فقط، وهذا ما يجب علينا أن ندركه ونعمل من خلاله.
للاستشهاد أتذكر حادثة وقعت في أسواق العزيزية وكنت متواجداً في السوق لحظة وقوعها، إذ سمعنا فجأة صراخ امرأة في أحد الممرات. المرأة أجنبية وتعمل ممرضة في المستشفى التخصصي المجاور للسوق. فقد تفاجأت هذه المرأة بوجود رجل ثلاثيني بالقرب منها وقد قام بتصرف لا أخلاقي غاية في القبح، ظناً منه أن هذا سيغريها للتواصل معه. تم القبض عليه بعد محاولته الهرب، وانهال جهاز الأمن التابع للسوق عليه بالضرب قبل تسليمه للشرطة. ماذا حدث في قسم الشرطة؟ لا شيء. توقيف لمدة ساعة أو أقل مع توقيع تعهد بعدم تكرار هذه الحركة مستقبلاً. هذا مع نوع الجرم. ماذا لو كان يسعى إلى الحصول على رقم هاتف فقط؟ شر البلية ما يضحك.
الذي يجب علينا أن نبادر إليه هو تأمين المنظومة الأمنية الشاملة داخل المجمعات والأسواق الكبرى والفنادق بحيث يشعر الجميع بالمراقبة التي سيليها العقاب. هذا خطوة أولى. الخطوة التالية هي سن القوانين الرادعة بدءاً بمحاكمة المتحرش وفصله من عمله بعد الإدانة ونشر صورته واسمه في الصحف. هذه إجراءات اتبعتها إمارة دبي ونتائجها واضحة للعيان. فعلى الرغم من تعدد المراكز التجارية الضخمة التي تتفوق على مثيلاتهـا بالمملكة إلا أنك لا تسمع عن التحرش كظاهرة. كنت أتجول في إحدى الإجازات داخل (دبي مول) وهو الأضخم في العالم ومليء بكـل أنـواع البشر وبجميع الأعمار. لفت انتباهي وجود فتاة إماراتية لم يتجاوز عمرها 25 عاماً على الأكثر وتعمل في محطة (كاونتر) للاستعلامات داخل أروقة المجمع وترتدي الزي الإماراتي المعروف. سألتها عن الراتب والمضايقات إن وجدت. قالت إن راتبها الشهري يبلغ 10000 درهم في الشهر. سألتها: هل تشعرين بالمضايقات؟ هل يتحرش بك أحد؟ قالت وهي تبتسم بثقة: أبداً لم يحدث ولو حدث فسيتم القبض على المتحرش خلال ثوان معدودة. لاحظت سقف وجنبات المركز وشاهدت عشرات الكاميرات المسلطة على كل زوايا المكـان وعرفت لماذا تحدثت الفتـاة إلينا بهذه الثقة. من المؤكد أن خلف هذه التكنولوجيا أيضاً متخصصين في الأمن والسلامة وبسط هيبة القانون. عرفـت عندها لماذا يتجول السائح هناك بكل ارتياح إلى درجـة أن بنات البعض من الزوار السعوديين يذهبن مثلاً لمشاهدة فيلم سينمائي بلا مرافقة من أحد من أعضاء الأسرة وعند انتهاء الفيلم، أحياناً بعد منتصف الليل، يعدن إلى الفندق أو مقر السكن بكل اطمئنان.
هذا المشهد الذي تناولته هنا متصل أيضاً بالأمن بشكل عام. فوجود المراقبة المتقدمة يضيق الخناق على المجرمين. حالات السرقة في إمارة دبي تعتبر الأقل مقارنة بغيرها من المدن المتوسطة والكبيرة بسبب هذه المنظومة الرائعة. لا شك لدي أيضاً بأن نظام ساهر القائم حالياً في المملكة سيساهم في تكريس الأمن بشكل عام وسيضيق الخناق على المجرمين لما يحتويه من تقدم كبير في التكنولوجيا المستخدمة. المطلوب هو توسعة التجربة وشموليتها لتعم الفائدة.
أتمنى أن نصل إلى هذه المستويات في المملكة من خلال تسخير التكنولوجيا لدفع التنمية، إضافة إلى زرع القيم والأخلاق التي تعصف بها الرياح في مجتمعنا الحديث. لاشك لدي بأن القائمين على أنظمة الأمن والعدل في المملكة يشاركونني بها ويضعون تحقيقها ضمن أجنداتهم الطويلة المثقلة. إنها تطلعات لا تحتمل التأخير، لأنها ستنطلق بنا من حالات الشك إلى الثقة وقبل ذلك ستدفع بكل الشرفـاء ذكوراً وإناثاً إلى المساهمة في تنمية هذا الوطن وحفظ الأموال بداخله بعد الاستغناء عن الأجانب الذين يملؤون وظائفنا ويحولون مدخراتهم إلى الخارج.