أصدقكم القول: أنني حين كتبت مقالي السابق (توينبي وذوبان الأمم) لم أكن أعلم أن اليوم الذي سيُنشر فيه هو اليوم الذي يقام فيه مؤتمر القمة العالمية للعمل الإنساني في مدينة إسطنبول بتركيا، وهذا المؤتمر يأتي في سلسلة الجهود التي تبذلها الأمم المتحدة منذ تأسيسها في حربها على الأخلاق والمثل والقِيم التي توارثتها البشرية والتقى بنو آدم عليها في مختلف بلدانهم وأديانهم.
فالأمم المتحدة عملت باقتدار على حرب الأخلاق الإنسانية المشتركة عبر العديد من مؤسساتها الإنسانية والنسوية، والعجيب أنها تفعل ذلك باسم المشترك الإنساني، مع أن ما تدعو إليه إنما هو نقيض كل المشتركات، بل هو عبارة عن تطبيع ما تعارفت الإنسانية على اعتباره شذوذاً وجرماً أخلاقياً وانحرافاً سلوكياً. وجاءت هذه القمة التي تتخذ من الإنسانية شِعاراً مزيفاً لها تتويجاً للعديد من الأعمال والوثائق والمؤتمرات التي تتخذ من العناوين الحقوقية ومآسي العالم ستاراً لمشاريعها ضد الفضائل الإنسانية وضد فطرة الله التي فطر الناس عليها.
فبينما يرفع هذا المؤتمر شعار حماية اللاجئين ونبذ العنف والبحث عن المشترك الإنساني نجد أنه تعقد ورش عمل متخصصة في تطبيع الانحطاط الأخلاقي ومحاربة الفطرة، فإحدى هذه الورش كانت بعنوان: تفعيل مساواة الجندر، والجندر لمن لا يعرفه هو صيغة ثقافية يُراد فرضها على البشرية تُلغي بزعمهم التقسيم الفطري للبشر على أساس الذكر والأنثى للخروج بجنس واحد هو الجندر، الذي من خلاله يُطبع التزاوج بين الرجال والرجال والنساء والنساء وإنشاء ما يسمونه بالأسرة غير التقليدية التي لا تتكون من الرجل والمرأة.
وكان من ضمن أنشطة المؤتمر الحديث عن الصحة الإنجابية عبر وثيقة بعنوانGeneral Comment No. 22 وقد تم اشتراط أن تكون تلك الوثيقة هي الإطار والمرجعية للنقاش، وهي تطالب صراحة بتقديم خدمات الصحة الإنجابية والإجهاض بشكل خاص لكل الأفراد وخاصة للمراهقين. كما تطالب بإعطاء الشواذ كافة الحقوق وعدم التفريق في المعاملة بينهم وبين الأسوياء. كما تم في الورش المصاحبة للمؤتمر طرح وثيقة بعنوان 2015-IASC-Gender-based-Violence-Guidelines، والمقصود بها التوجيهات الخاصة بالعنف القائم على النوع الصادرة عن اللجنة الدائمة المشتركة بين الوكالات لعام 2015، وهي تمثل الإطار العملي للقضاء على ما أسمته العنف المبني على الجندر وضرورة أن يتم تطبيقها بالكامل قبل عام 2018، وفيها مطالبة صريحة ومتكررة بحقوق الشواذ، وذكر لأنواع هؤلاء الشواذ بالتفصيل.
والوثيقة الأهم هي التي صادقت عليها تلك القمة وهي عبارة عن خطة اقترحها الأمين العام للأمم المتحدة بعنوان: خطة عمل من أجل الإنسانية Agenda for Humanity، وأخطر ما في تلك الخطة استخدام غطاء العمل الإنساني من أجل ممارسة كافة الضغوط على الحكومات لتطبيق الاتفاقيات التي تشتمل على الكثير من البنود التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية، بل ومع الفطرة الإنسانية، التي هي المشترك الإنساني الحق، مثل اتفاقية (سيداو) و(اتفاقية الطفل) و(وثيقة بكين) وغيرها من التوصيات والاتفاقيات والوثائق التي أصدرتها الأمم المتحدة تحت مسمى القانون الدولي لحقوق الإنسان.
ووثيقة الأمين العام هذه ربت على 100 صفحة، وأخطر ما فيها هي الصفحات من 70 إلى 90، وتتضمن الدعوة إلى إلزام الحكومات والضغط عليها من أجل تطبيق ما أسمته الوثيقة بقيم الأمم المتحدة، وهي القيم التي تتضمن تشريع الشذوذ والسعي إلى إلغاء الجنسين الرجال والنساء لتصبح البشرية بعد 15 عاماً جنساً واحداً ليس فيه ذكر أو أنثى، ويجب لأجل ذلك أن تلغى كل القوانين والشرائع والأعراف التي تحول بين البشر وبين هذا العالم الجديد الذي تدعو إليه الأمم المتحدة وبين الهيمنة على طبائع البشر وعاداتهم وأديانهم.
إنني أعتقد أن اختيار إسطنبول لعقد هذا المؤتمر لم يأت اعتباطاً، فهي إحدى كبريات عواصم التأثير في العالم الإسلامي اليوم، كما أنها أول عاصمة إسلامية شهدت انقلاباً حاداً على القيم الدينية بعد ثورة كمال أتاتورك، وهي العاصمة التي تحاول اليوم جاهدة الانقلاب على القِيم الأتاتوركية والعودة إلى أصولها الإسلامية.
والحقيقة أن الأسف يغمرني لموافقة القيادة التركية على إقامة هذه القمة على أراضيها، مع أن من المفترض أن هذه القيادة جاءت لتخلِّص المجتمع التركي من مأزق التغريب الذي أوقعهم فيه الاتحاديون منذ 90 عاما، فكيف تسمح لقمة تشرِّع هذا التغريب وتسعى لجعله قانوناً دولياً مُلزِماً أن تقام على أراضيها. كما يشتد أسفي لكون الدول الإسلامية التي شاركت كان صوتها منخفضاً في الوقوف ضد نقاط الانحطاط والدعوة إليه في هذا المؤتمر.
والحقيقة المجهولة عند الكثيرين هي أن الأمم المتحدة التي تُظهر الضجر بالحروب وعواقبها هي أشد منظمات العالم سروراً بالحروب حين تكون في البلاد التي يغلب عليها المحافظة الأخلاقية والتمسك بنظام الأسرة القائمة على الرجل والمرأة، وذلك لأن أجواء الحرب وما ينتج عنها من عاهات وبلاءات تعد عند الأمم المتحدة بيئة مناسبة للضغط في اتجاه التغيير الأخلاقي والاجتماعي.
وأختم بعدة دعوات لمواجهة مشروع التغيير الأخلاقي الذي تسعى إليه الأمم المتحدة ومن وراء الأمم المتحدة من دول ومنظمات.
الدعوة الأولى: موجهة للإعلاميين من كتاب وصحفيين ومراسلين ومقدمي برامج، بل وممثلين وقصاصين، أدعوهم لفهم ما يجري على حقيقته وألا يتم استغلالهم ليكونوا أداة في المشروع الاستعماري الخطير، مشروع إذابة الأمم، والذي كان موضوع مقالي في الأسبوع الماضي وأشرت إليه بداية هذا المقال.
إن هذا المشروع يريد حقاً العبور إلى المجتمعات عبر هذه الفئات من الإعلاميين، لا سيما مجتمعنا في المملكة العربية السعودية والذي ينبغي أن تفخر جميعاً بأنه لا زال أكثر مجتمعات العالم استعصاء على عملية التغريب، وأن الأمم المتحدة ومن وراءها يسعون جاهدين لتطويعه، وهم يصرحون باتخاذ الإعلاميين جسراً لهذا التطويع المرتقب.
الرسالة الثانية: للكتاب خاصة وللعلماء والدعاة والوعاظ والمعلمين والمعلمات، أدعوهم لتوعية المجتمع بهذه المؤامرة الأممية على الأخلاق والفضائل ليكونوا أكثر تمسكاً وممانعة على أخلاقهم وفضائلهم وعوائدهم وأعرافهم السوية.
الدعوة الثالثة للدول الإسلامية ممثلة في جهاتها الدينية إلى اتخاذ تدابير عملية لمواجهة صولة المنظمة الدولية الساعية باقتدار ومهارة وتدرج لقتل الفضيلة فيما بين البشر، كما أدعوهم للصمود أمام الضغوط الأممية بل والعمل على إيجاد ضغوط مضادة على المجتمع الدولي عبر المؤسسات الحقوقية الإسلامية القائمة، مستغلين أخطاء النظام العالمي وجناياته المستمرة على العالم بأسره.