تتميز دول العالم الصناعية إما بالعمالة الرخيصة أو بامتلاك التكنولوجيا والابتكار والكوادر الماهرة أو كليهما معا، ومحاولات دول لا تمتلك أحدهما مضيعة للوقت والجهد والمال

تسابقت الصحف في تلك الأيام بالتوجه لبناء المدن الاقتصادية –رابغ وجازان وحائل والمدينة المنورة– واستخدمت المصطلحات الرنانة، تنويع مصادر الدخل وتوفير ملايين الوظائف ومشاركة القطاع الخاص والفرص الاستثمارية وجذب الشركات الأجنبية وغيرها، وها نحن بعد 10 سنوات بعد أن قدرت التكلفة المتوقعة بمئات المليارات، لا صناعات ولا وظائف والدراهم طارت.
اعتقد الكثير أن المدن الاقتصادية ستبني المصانع، أي أن هيئة المدن الاقتصادية والمطّور سيبنيان مصانع للسيارات والبواخر والمعدات والأجهزة والإلكترونيات، ولم يعلم الكثير أن المدن الاقتصادية هي مدن صناعية مثل الـ30 مدينة صناعية الموزعة على مدن المملكة، تطور الأرض وتجهز البنية التحتية -كهرباء وماء وصرف صحي- لكي تجذب أصحاب المصانع. الفرق أن المدن الاقتصادية تبني سكنا للموظفين والعمالة داخل المدينة الاقتصادية.
حلم وتبخر وتبخرت معه مئات المليارات من الريالات، وعود لملايين الوظائف وتطوير للصناعات والاقتصاد ذهبت مع الريح، تسببوا في ارتفاع أسعار أراضي المدن المجاورة لها، والسبب أن المسؤولين والإعلام بأنواعه تغنوا بالأحلام وسوّقوها على البسطاء.
لماذا فشلت المدن الاقتصادية؟ لماذا فشلنا في جذب الشركات الأجنبية؟
المدن الاقتصادية لم تفشل، هي بالأساس لم تكن لتنجح، المدن الاقتصادية مثل المدن الصناعية، وكلاهما يوفر المساحة والخدمات فقط، فالصناعة بحاجة إلى مقومات كثيرة. لم تتوافر عوامل التميز ولا مقومات النجاح، فكانت صافرة النهاية لصالح السلع المستوردة.
تتميز دول العالم الصناعية إما بالعمالة الرخيصة أو بامتلاك التكنولوجيا والابتكار والكوادر الماهرة أو كليهما معا. العمالة الرخيصة مثل الفلبين وتايلاند والصين والهند وامتلاك التكنولوجيا والابتكارات والكوادر الماهرة مثل اليابان وألمانيا والولايات المتحدة، وهناك أمثلة كثيرة. الدول ذات العمالة الرخيصة ليس بالضرورة أن تمتلك التكنولوجيا، فقد تجيد تصنيع الابتكارات التي ابتكرتها الدول المتقدمة.
المدن الاقتصادية بالمملكة لم تستطع جذب الشركات العملاقة للتصنيع هنا، لأننا لسنا دولة ذات عمالة رخيصة ولا نملك التكنولوجيا والابتكارات والكوادر الماهرة، وهذا هو السبب الرئيسي لامتناع الشركات الأجنبية عن الحضور إلى المملكة، مع أنه كانت هناك بعض المحاولات لإغرائها بالدعم منقطع النظير، ولكن الشركات تعي عدم استدامة الدعم المادي لأنه سيكون غير مربح للمملكة وبالتالي سيفشل.
السبب الثاني والمهم؛ أن الشركات العملاقة لا تصنع كل أجزاء المنتج، فهي تبحث عن شركات أخرى مساندة تشتري منها القطع الرئيسية، فمثلا شركات السيارات في ديترويت بالولايات المتحدة الأميركية -فورد، وجي إم، وكرايسلر- يتواجد بينها 3000 شركة مساندة تقدم لهم الصناعات، بينما تركز الشركات الكبيرة على التصميم والهندسة والمحركات والتركيب والجودة والسلامة وغيرها.
ماذا يجب عمله لهذه المدن الاقتصادية الآن؟
يلزم إيجاد عوامل البناء الأساسية للاقتصاد والتنمية، من أهمها: التخطيط للمديين المتوسط والبعيد، وتعيين الكفاءات والاعتماد عليهم في المراكز القيادية، تطوير مراكز البحوث والتطوير والدراسات، وبناء دور للفكر وبيوت للخبرات، والقضاء على الفساد.
لنتذكر أننا لسنا دولة ذات عمالة رخيصة ولا نملك التكنولوجيا والكوادر الماهرة، فليس أمامنا إلا تصنيع وتقديم خدمات غير رخيصة مؤقتا لكي نحتوي البطالة ونطور الاقتصاد بالكوادر. قد يكون الاستعانة بالتكنولوجيا من الخارج بصفة مؤقتة حتى يتم تفعيل مراكز الدراسات والبحوث والتطوير وتدريب الأيدي العاملة لتكون ماهرة ونكتسب المعرفة الـknowhow ومع مضي الوقت نكون اكتسبنا الخبرات وفعلنا الابتكارات ونستطيع امتلاك التكنولوجيا وتحويلها إلى منتجات.
رمي الكرة في ملعب القطاع الخاص لن يجدي لعدة أسباب، ولذلك يلزم مشاركة الصندوق الاستثماري الحكومي بالمساهمة مع القطاع الخاص والمواطنين. مشاركة الصندوق لكي يتحكم في مجالس الإدارة كي لا يطغى استهداف الربحية القصوى على حساب تطوير الاقتصاد والوظائف، وطبعا جميعها مطلوبة ولكن بتوازن لتحقيق جميع الأهداف المرجوة. وأن يكون هذا على غرار صندوق الاستثمارات العامة في تأسيس شركة سابك، ولكن للصناعات الأخرى المتقدمة والخدمات التكنولوجية والطيران والفضاء، والبقية.