هل هو هذا، نفسه، راشد الغنوشي، الذي وقف على خشبة منبر الاجتماع التاريخي لحركة النهضة التونسية ثم يقول بالحرف: نحن نخرج اليوم من عباءة الإسلام السياسي لندخل الديمقراطية المسلمة، فنحن مسلمون ديمقراطيون. وحين استمعت إليه قلت لنفسي بدهشة وذهول: يصعب على المرء أن يبلع ويلغي جملة واحدة من تاريخه ثم يتراجع عنها ويرفضها، فكيف بمن يبلع ويلغي ويتراجع ثم يرفض إرثاً هائلاً من الأدبيات المتراكمة هو كل تاريخه وهو ما عاش ماضيه لأجله وعليه.
هكذا نحن بنو يعرب، بل كل أبناء هذه المجتمعات الإسلامية الخديج التي عاشت لقرن كامل من الزمن ضحية لإملاءات الحركات والجماعات، وأخيراً لنقاط التحول والتبدل بحسب المزاج العام الذي يريده لها فضيلة الشيخ. عاش راشد الغنوشي في المنفى لثلاثة عقود، عقد خلالها آلاف المحاضرات أمام الأقليات الإسلامية وفي جامعات الغرب، وكان خلالها لا يمثل في خطبه سوى اللسان المتحرك لكتاب سيده، سيد قطب، عن جاهلية القرن العشرين. وجوهر هذه الجاهلية ليس إلا أن الديمقراطية مجرد غزو ثقافي تغريبي هدفه تدمير روح القيادة في المجتمعات الإسلامية. حاول راشد الغنوشي، ومعه حركة النهضة، أن يعيد ذات المحاضرات والخطب إلى مسامع شعب تونس بعد العودة. قرأ عليهم كتاب جاهلية القرن العشرين فاكتشف أن هذه الخطب العصماء لم تسعفه مع حركته لأكثر من عام ونصف، ثم جاءت الانتخابات كوقع الصاعقة حين فازت حركة مدنية اسمها نداء تونس بالأغلبية المطلقة. قال له المثقف التونسي، نبيل الهادي: أنت تبيع الخطاب الإسلامي إلى مجتمع مسلم متماسك ومتمسك، ولا توجد لديه مشكلة مع الالتزام والفضيلة، ولكنه يتوق إلى الكرامة والعيش والوظيفة. كأنني براشد الغنوشي بعد تلك الجملة وقد عاد ليقلب صفحات مرجعه الأشهر في كتاب جاهلية القرن العشرين فلم يجد به جملة واحدة تستطيع أن تعطي جواباً واحداً على المطالب المدنية الخالصة للملايين فيما يخص تفاصيل ودقائق حياتهم اليومية. كأنني به يكتشف أن الشعب يذهب لصندوق الاقتراع، مؤمناً مسلماً بالفطرة التي لا تحتاج إلى تلقين أو تخويف، ولكنه يعطي صوته لمن يعده بالأمان والوظيفة. اكتشف راشد الغنوشي أن كتاب جاهلية القرن العشرين قد يأخذ شعبه إلى جاهلية القرن الذي يليه، ولهذا قرر الخروج من عباءة الإسلام السياسي إلى إسلام الحياة كما تريد هذه الشعوب. العبرة أن هذه الشعوب ضحايا نقاط التحول سواء لصاحب الفضيلة أو لمجمل جسد الحركة.