صالح الصعب
إن معجزة الإسلام هي القرآن، ولاريب فهو من لدن حكيم حميد، تطرّق لأمور عدة؛ فيها السبيل المبين للوعد الموعود، وعند تقليب سطوره يتبيّن لك من أول وهلةٍ: أنّ القرآن قد جعل قضية الإنسان لب محاوره وبلغة غايته، فأصبح التلازم واضحاً بين طرح القرآن وهذا المخلوق المسمى بالإنسان.
تارةً يخاطبه بشيراً وتارة يخاطبه نذيرا وتارةً يذكّره بأصل خلقته لينزع عنه إزار الكبرياء وجلباب العظمة ليعود إلى رشده ومعرفة أصل ضعفه وهوانه.
لاجرم أن التفنن في الخطاب القرآني للإنسان كان مشتملاً على أساليب واضحة المسلك، نيرة القيم، هلك من هلك عن بينة، ونجا من نجا من معترك الشر مع النفس والشيطان وثبج موج الغضب الرباني، ثم ترى الفوز يخرج من خلاله فيبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم.
كان الإنسان في العصور الواجفة ماهو إلا كائن ذليل خاضع لمولاه الإنسان الآخر الذليل أيضا لهواه ولشيطانه، لاكرامة ولاهوادة في الترحم ولا التلطف ولا المساواة، أبان عن ذلك تفجر الثورات في أوروبا، بعدما كانت قابعة تحت ذل الدِّين المسيس لخدمة الإقطاعيين عندما ساموا إنسانيتهم سوء العذاب .
صرخت الحرية أن هلموا ياعبيد و اخلعوها بالدماء والشقاق، فأتبعهم كل مريد شجاع، وهكذا هربت أوروبا ومن حولها تحث الخطا نحو الوحدة الإنسانية لترفع شعار الإنسان وأنه وحده المقدس والمستحق للإهتمام والتنعم بما حوله والنظر لما يريد وأي شيء يريد وأن الحرية سبيل الكرامة!
فانغمسوا في حربهم هذه حتى لم يُبقوا للإنسان أي مطلب إلا وطالبوه، ونادوا به، حتى شذوا عن الطريق بمطالبهم الحيوانية، وشهواتهم الساقطة، فراغموا الفطرة وشانؤوا حرية الإنسان وكرامته، وشانِئِهِم من قال غير ذلك، ثم عادوا - وهم يعلمون أو لا يعلمون بذلك لكن الله يعلمهم- يسومون بأيدهم كرامة الإنسان سوء النكال .
أما القرآن فقد كان مثلاً - ولايزال - مثلاً باسقاً للرحمة، وإصلاح شأن الإنسان والجماعة والدولة من كل جنس وفي كل عصر وعلى كل أرض .
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، فلما كانت الرحمة هي المنهج الأسمى والمطرد في القرآن فسنقف عند إحدى هتافات هذا المنهج القرآني .
يقول تعالى : ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير خلقنا تفضيلا ، كرّمه في خلقِه، وفي أصل خلقتِه، وفي القدرات التي منحها إياه؛ ليجوب الأرض طوعا وكرها؛ فيستخلص له منها من الطيبات، وكرمه بالاستعدادات العالية ليميز الخبيث من الطيب بالعقل الذي أودعه إياه ليتناهى عن كل قبيح ولا يتّبع كل شيطان مريد، وأودعه مضغة تسمى القلب مهيأة للإستعداد للحب والخير، وإقامة عبودية طاهرة سبيلها التنسك والإرتباط بفاطرها .
بل تزامن تكريمه من نشوء خلقه وبداية وجوده بذلك الاستقبال الفخم الذي استقبله به الملائكة المطهرين ، ليعلن لهم الخالق جل شأنه هذا التكريم، تكريم الإنسان .
بل لم تفت هذه الأية ولم تمر مرور الكرام على بعض المفسرين حيث ترشح عندهم بأن الإنسان من هذا الإعتبار هو أفضل من الملائكة .
القرآن لم يراع الإنسان فقط في حالة تكوينه ونشوئه عندما خلقه في أحسن تقويم، بل راعى متطلباته وأصل خلقته وكان الإنسان ضعيفا، فأعانه على الرشد والهداية وشق من أمامه السبيلين إما شاكرا وإما كفورا بالرسل والقصص والوعيد والنذر وبشّر وأمهل .
فلذا كان من تكريم الإنسان أن يكون الإنسان قّيما على نفسه ، محتملاً تبعات اتجاهاته وكذلك عمله ، وهذه هي الميزة التي امتاز بها الإنسان عن غيره ليكون خليفة في الأرض .